بقلم:ياسمين كنعان
أنت على حق يا صديقي..نعم أنا أحاول أن أبقيك بعيدا عن حدود قلبي، وعن كل الأسوار التي أقمتها حولي؛ لأن أرض نفسي مزروعة بالخوف، مسكونة بالرعب!
وكل من اقترب أحرق وردي وقلبي ومضى؛ لذلك قلت لك أنا أكتفي بك صورة أتأملها حين ينام الكون على قبحه ومجازره وأحقاده السوداء!
أكتفي بك صورة تؤنس وحدتي، و تطرد كل الأشباح التي تتربص بي في الزوايا المعتمة، أتأملك كي أصرف انتباهي عن متابعة الخيالات التي تعبث في مخيلتي وأفكاري، أتأملك كي أحافظ على توازني النفسي والعقلي وربما الجسدي أيضا...
أغيب معك في حديث طويل، قد يبدو مجرد ثرثرة فارغة بلا معنى؛ وأنا لا أبحث عن معنى ولا مبنى؛ فقط معنية بحضورك، وبهذا الحضور الذي لا يتشابه مع أي حضور!
كلما غبت في دهاليز العتمة وغاب الضوء أو كاد، أحتمي بنظراتك من حتمية الضياع، أعثر فيهما على سكينة لروحي، و أبوح لهما بكل أسرار الماضي ومتاعب الحاضر، أقترب منهما كي أقرأ سحر النظرة،و أحاول تفسير هذا الإنجذاب نحوهما..
لا أدري لم أتذكر الآن أمي؟!
مرة قالت لي بأني قد أخذت عن والدها ( جدي) عيونه الواسعة؛ لكنني لا أعرفه ولم أر له صورة واحدة!
الليلة أرقني السؤال.. لم لا أعرف عنه الكثير؟!
كل ما أعرفه نتف حكايات غير مترابطة، لم لم أسأل أمي عنه ولم أستفسر أكثر...وهمست لنفسي وأنا عاقدة العزم على معرفة المزيد: سأفتح معها أبواب الحديث في الغد!
وإن جاء الغد مسرعا أو متباطئا فمن أين أبدا؟!
سأبدأ من الخيط الأول، أجذبه نحوي مثل شبكة صيد ستجر ورائها مئة سمكة أو خيط، وانتشيت لفكرة هذا الصيد الثمين والغزير..وكنت فرحة لأنني لن أعود بخفي حنين!
جدي لأمي كان من اللد هكذا أعرف، وأحيانا تختلط علي الأمر وأقول لا، بل من الرملة، أمي كانت تكرر المثل " اللد قبال الرملة!" وأنا لا أعرف اللد ولا الرملة؛ ربما أعرفهما على الخريطة فقط...فمن سوء حظي أن بلادنا مجرد خريطة! لا بل هي مجموعة خرائط لا تعد ولا تحصى...فأي خريطة سأجد عليها بلادي؟!
حتى أني لا أحب الخرائط بأنواعها ولا مسمياتها العديدة، كلما نظرت إلى العالم المستلقي على إحدى الخرائط، بحثت بعفوية ضائع عن بلدي، هذا الذي بالكاد يرى على الخريطة، وأقول في سري كم تكذب الخرائط يا وطني، أراك هنا بكاملك، وفي الحقيقة أنت أكثر من حقيقة!
أراك هنا بكل اكتمالك، وفي الواقع أنت مثل رغيف خبز تقاسمه الفقراء وسرق الحصة الأكبر منك الغرباء..أنت فتات الفتات وأنا لا أعرف من هذا الفتات الكثير!
هل خرجت عن النص..ربما!
أعود بك إلى جدي الذي لا أعرفه..ولا أعرف عنه الكثير سوى أنه لاجىء ب" كرت مؤن " وهذا اعرفه ومتأكدة منه لأني كنت أرى (البقجة) بعيني، وإن كنت لا تعرف البقجة فهي صرة ملابس مستعملة... ستكون يا صديقي من المحظوظين لو عثرت فيها على قطعة ملابس تناسب مقاسك، أو كانت أصغر قليلا أو أكبر كثيرا..لا فرق!
ومع البقجة كيس طحين و أكياس حليب وعلب لحم وسردين وأكياس حبوب...وأشياء كثيرة لم أعد أذكرها؛ جدتي ورثت بعد جدي كرت المؤن والبقجة... ألم أقل لك إن النكبة تورث؟!
ربما أخذتك بعيدا عن عيوني وعيون جدي الواسعة، ولكن أتساءل، ما وسعهما يا ترى؟!
فكرت أن أستحضر صور خالاتي وأخوالي وأولادهم، لأقوم بتصنيف بسيط؛ أصنع في مخيلتي خانات افتراضية، سأطلق على الأولى عيون جدي، والثانية عيون جدتي..سأتسلى قليلا كي أقتل هذا الليل المرير، سأبدأ بأمي وأضعها في الخانة الثانية مع جدتي..وقبل أن أحزم أمري توقفت مليا إذ لم أعد متأكدة بسبب طول الغياب إن كأنت أقرب شبها إلى والدها أو والدتها...واحترت حاولت أن أتذكر تفاصيل وجهها..ارتعشت الصورة قليلا، لم تكن عيونها واضحة التفاصيل، لذا قررت بما أني اشبهها على نحو ما أن أضعها في خانة جدي..لا تسألني كثيرا إن كنت متأكدة ام لا؛ فالغياب الطويل يجعل أمر التثبت من الملامح أو التفاصيل أمرا مستحيلا!
كيف مات جدي ومتى، ومن تولى أمر العائلة بعد موته أيضا لا أعرف؟!سمعت أمي مرة تقول بأنه كان يعمل في محجر، ولم أسأل أين؛ هل كان المحجر في اللد أو في المكان الذي هجر إليه هو وعائلته، أيضا لا أعرف؟!
مرت بي صور خالتي وأخوالي وأولادهم..ومن خلال تصنيفي الافتراضي رجحت كفة جدي..ومن باب توخي الدقة أقول لك لا تأخذ ما خرجت به من نتائج على أنه مسلمات، فصدقا ما عادت ذاكرتي تحفظ ملامحهم جيدا، وربما خلطت دون قصد الملامح بالملامح!
لماذا تشوشت صورتك فجأة...يبدو أنك تعبت مما سردته عليك، وربما أضعتك في أحابيل الحكاية.
لا عليك يا صديقي، ليس ثمة ما يستحق التفكير ولا عناء ملاحقة التفاصيل، أردت فقط أن أدخل في بوح مع عينيك، لكنني اكتشفت أني ضعت فيهما، وأني خلطت دون قصد أوراق الحكاية!
حماقات مسائية
ياسمين كنعان
11 آب 2021