عزبة الدراويش ق.ق

محمد نصار
محمد نصار

عزبة الدراويش ق.ق
بقلم: محمد نصار

منذ الصباح الباكر وجموع الناس تتوافد زرفا وأفرادا، من شتى الحارات والأزقة، باتجاه الطريق الرئيس فيها، تسير بخطى  ساهمة.. شاردة، كأنها سكرى أو نالها شيء من اسمها، اسمها الذي لم يدر أحد من أطلقه ومتى، رغم أن بعض العارفين فيها، عزا لأمر إلى طبيعة أهلها، التي تميل إلى الدعة واللين المستفز أحيانا.
 اصطفوا على جانبي الطريق، وفق نظام اقترحه إمام المسجد الوحيد فيها، تكون الأولوية فيه لمن يواظبون على خمسهم في جماعة، ثم الذين يلونهم، فالذين يلونهم، ثم دهماء الناس، فالنساء والصبية ممن لم يبلغوا الحلم.
تراصت الصفوف وفقا لفتواه وبات الطريق الذي يربط العزبة بالقرى والنجوع المجاورة، مزدانا بالرايات والأعلام التي تدل على أصحابها، ممن جاءوا للاحتفاء بقدوم الوالي، الوالي الذي طال انتظاره، رغم تفشي البلاء وتهديده بزوال ذراريهم واندثار ذكرهم.
 خرج الرجال والنساء وشيوخ المسجد، بعد صلاة الفجر مباشرة، تركوا تسابيحهم وأذكارهم المعتادة وتقدموا الجموع، على أمل أن يتمكنوا من رؤيته، أو يحظوا بتقبيل يديه الطاهرتين والتبرك بهما، لما قيل فيهما وأشيع، خصوصا من ذلك الإمام، الذي طالما حدث عن قدراتها الخارقة، مؤكدا في ذات الوقت، أن رفع البلاء عنهم وعودة الحياة إلى أرحام نسائها، شيء تافه أمامها، لكنه مشروط بالسمع والطاعة، فما كان منهم سوى النزول عند قوله، بعدما صار الأمر مثار قلق وخوف يعتصر النفوس، وبات الحديث عن زوال العزبة، هاجسا يطارد الجميع ويقض مضاجعهم.
آخر الذكور جاءها قبل عقد ونيف، غاضت بعده الأرحام، لم تلد غير الإناث، ثم صامت تماما عن الإنجاب، بعضهم عزا الأمر إلى الماء الذي يشربون وآخرون بدلوا طعامهم ولجأوا إلى ما تنبت الأرض من بقلها وقثائها وثلة قالت هي التكنولوجيا التي أفسدت الناس، أما الإمام فزعم أنها لعنة السماء، التي حلت جراء كفرهم النعم وكثرة شكواهم ولجوجهم، فيما غمز بعض الخبثاء قائلين أنها الفياجرا المضروبة، فأوقعوا الناس في حيرة وكرب، دفعتهم إلى اللجوء لكل دعي مارق ودجال حاذق يبيعهم الوهم والأماني، حتى ذهبت أنفس يئسا وفرت أخرى طلبا للنجاة ومن بقي منهم، لم يعد له شغل سوى التضرع إلى الله، أن يرفع البلاء عنهم، تركوا مزارعهم وأشغالهم وراحوا يفتشون في الكتب القديمة وصفحات الفيس، طمعا في تعويذة أو حجاب، يطرد النحس عنهم واللعنة التي حلت بهم، وآخرون وسوس لهم الشيطان بأن يتبعوا نهج الأقدمين في التبضع من غرباء يمرون بالعزبة، حفاظا على النسل من الزوال، لكنهم حين طرحوا الأمر على نسائهم، صمت بعضهن وثار البعض، فيما هجرن أخريات بيوتهن دون رجعة  .
الوحيد الذي كان يتابع ما يجري بغيظ وتميز، عجوز في السبعين من عمره، كان دائم الاعتراض على نهجهم وطريقة عيشهم، حتى ضاقوا ذرعا به، بل وصل بهم الأمر حد التعنيف وأحيانا التلويح بالقوة ، لكن الأمر انقلب إلى الأسوأ، حين رزق بمولود ذكر في موسم جفافهم، وجدوها فرصة للتشفي منه والانتقام، رموه بالدياثة والقوادة وكادوا أن يبيحوا دمه، فترك العزبة واتخذ مكانا فوق تلة تشرف على طريقها الرئيسي، يطلع على أحوالهم ولا يخالطهم، لكنه حين رأى موكب الوالي آتيا من بعيد، صاح بملء فيه: يا أشباه الرجال.. هبوه نسائكم.. دعوهن يتبضعن منه، عسى أن ينجبن من هم في خبثه ودهائه فيتبدل حالكم، ربما جاءوا أجرأ منكم وأشجع، فكان آخر ما رأى من دنياه، يد الإمام وهي تشير إليه بحدة وغضب.

البوابة 24