في روايتها جوبلن بحري.. دعاء زعبي: تطرز خارطة التحدي

دعاء زعبي
دعاء زعبي

بقلم : الدكتور محمد بكر البوجي

عندما تقع بين يديك رواية تصيبك بالقشعريرة وأنت تقرا ، هنا تكمن حقيقة الأدب ، عندما تفكر في مناقشة رواية يعني أنها وصلت  مرحلة النقد  ، ومدرستي  تقوم على مناقشة وتحليل الأعمال التي تصل مرحلة النقد ،هنا مع الأديبة النصراوية  الفلسطينية دعاء الزعبي  شعرت بارتياح شديد وأنا أغلق صفحات الرواية في نهايتها ، رواية جوبلن بحري هي نتاج قلق وجودي  ومصيري في بلادنا فلسطين "نحن غرباء  كغربة التاريخ  في هذه المدن " ص 12.  تعاني الكاتبة  من تمييز عنصري واضح ، تتخذ من الصبية ميار يوسف قناعا لها ، ميار شابة عربية تتقدم لدخول الجامعة ، لكنها تسمع من مسؤولة الجامعة كلاما ينضح بالعنصرية القاتلة  : أنت عربية فقط مهمتك إنجاب الأطفال لا تصلحين للدراسة هنا ، ميار تشعر بالألم والتحدي . هذه قضية ضمن عشرات القضايا تناقشها الرواية ، وهي العنصرية  في التعامل مع الطلاب الفلسطينيين  في الجامعات المحلية الإسرائيلية  ، ميار تحمل بطاقة  شخصية  إسرائيلية مثل باقي السكان وجواز سفر  أيضا ، تدرس في مدارس تديرها وزارة التربية والتعليم الإسرائيلية  وتحمل شهادات موقعة من الوزارة  ومع ذلك لا يعترفون بها كثيرا إلا بشروط خاصة ، بينما الطالب  القادم من روسيا ويحمل شهادات من روسيا أو بولندا  يتم قبوله بالتخصص الذي يريد  دون مناقشة . غلاف الرواية يشي بمخيلات كثيرة لدى المتلقي ، الغلاف يحمل مفاتيح  الدار التي طردت منها  ميار  وأهلها وكل أبناء شعبها ، المفتاح هو حلم العودة ، لكن كيف تحلم بالعودة وهي في وطنها في بلدتها  تعيش داخل الوطن ! هنا يتجلى الاغتراب الحقيقي داخل الوطن . الإهداء فيه ألم شديد  يتساوق مع طموحات ميار ، ميار تحمل قلق  الفلسطيني المشرد في غزة والضفة والمنافي ، كانت تقرأ شعارهم منذ سبعين عاما على جدران الناصرة  والطيبة والطيرة ويافا وسخنين وكل المدن والقرى الفلسطينية ،عودة المشردين ، عودة النازحين ، ميار تشعر انها غريبة في وطنها أو أنها في وطن غريب ، الحاكم غريب والموظف غريب والجار الجديد غريب  واللغة غريبة ، إن لم تكن عدة لغات ، الموظفة التي طردتها من الجامعة غريبة أيضا جاءت من هناك من خلف البحار ، ميار تبحث  قضية  عودتها الى حضن الوطن العريي إلى حضن الوطن الفلسطيني،  فكان المفتاح على غلاف الرواية ، كثير من أدباء فلسطين استخدموا المفتاح رمزا للذاكرة الفلسطينيية ، لا بد من العودة ولو بعد حين    "وجع الأوطان المنهوبة والمسلوبة حارق" ص31. ميار تتخذ من القلق الوجودي في الوطن درعا لبناء المستقبل ، تسافر إلى المانيا  وتدرس الإعلام  وهو تخصص له رمزيته  في النص وخارج النص ، الإعلام يعني فضح الممارسات العنصرية للحاكم الجديد في بلادنا بصورة واضحة فجة لا لبس فيها .تتعلم ميار في المانيا إلى أن تحصل على درجة الدكتوراه بعد خمسة عشر عاما ، هذا انتصار للمرأة الفلسطينية  في البلاد . حان وقت العودة إلى أرض الوطن حيث الأهل  والحبيب هناك ينتظر . قائدة الطائرة هي هي سارة التي طردتني من الجامعة ، ستقود الطائرة الى البلاد ، صافحتها قائلة:  أهلا سارة أنا ميار يوسف أستاذة جامعية في الإعلام ص 167 ، دون مقدمة للاسم سارة ، كأنها تريد أن تقول  لها  لقد تساوت الرؤوس في الدرجة العلمية ، عادت ميار إلى أرض الوطن تريد أن تؤسس  أسرة مع حبيبها  ابن بلدها ابن حارتها ابن جيرانها  وقد تسمي ابنتها يافا والثانية حلا . وكلا الاسمين يدلان على  البقاء الحلو في يافا الفلسطينية ، إمعانا في التحدي  رأت الكاتبة أن  تبحث عن بعدها القومي  و أن تكون الطبعة الأولى لروايتها في سورية  إمعانا في حبها للعمق العربي ومحاولة منها لتوصيل رسائل إلى الأمة العربية  من خلال سورية
،  الرواية تنير لنا وحشة الطريق وليس لنا وطن سواه ، سارة تقود طائرات عسكرية  لتضرب الجيران  والفلسطينين  بقنابل النابالم  الحارقة في غزة ولبنان ، الآن هي مسؤولة مؤسسة أكاديمية ، هل يجوز ؟! 
الفلسطيني الباقي هنا يشكل صداعا مزمنا  لأناس جاؤوا  من كل بقاع الأرض يسكنون بيوتنا وأرضنا ، كما تقول ميار .
الرواية في مجملها راقية جدا ومؤثرة جدا تحمل في طياتها طاقات التحدي والبقاء  وأمل العودة و كل حادثة أو فقرة   تمنح المتلقي طاقات مختلفة تدفعك للاستمرار  في قراءة  النص والعودة إليه بين الحين والآخر .  الأسلوب اللغوي قوي متميز لا يقل عن لغة كبار الكتاب لأنها تقف في صفهم ، يتراوح  الأسلوب  بين السرد والعرض  وقليل من الحوار ، الكاتبة تعرف أدواتها جيدا ربما أن الرواية نتيجة قراءات موسعة  وجاءت في تقدم بسيط من العمر  وهذا سر النضج في معظم  أبعاد الرواية ، تعرف أدواتها جيدا  وتعرف مفرداتها ، إنها تكتب من وسط الأحداث  لهذا تنسجم رؤيتها مع قضايا فلسطيني داخل خط  48 . 
تحاول الكاتبة أن تنسجم  مع عمقها العريي التاريخي  والحالي  وهي لا  تفاجأ  بمشكلة مؤرقة ، كان المفروص أن تدخل  مثل باقي ركاب سفينة السياح القادمة من أسبانيا إلى مراكش ، كلهم يدخلون وتبقى هي في الانتظار إلى أن يأتي قرار  عدم دخولها الأراضي  المغربية ، تحكي لهم بلغة عربية صافية : أنا فلسطينية ما ذنبي أنني أحمل جواز سفر إسرائيلي ليس بإرادتي ،هذه القضية  طرحها معظم كتاب القصة والرواية الباقون هنا عام 48  ، ما ذنبنا أننا صمدنا ولم نترك الوطن أثناء الحرب ، نحن مجبرون على حمل هذه الوثائق رغما عنا لا بديل عنها، فعلا قضية شائكة ومزعجة  لا نحن عند العرب خالصين ولا عند  الحاكم الجديد  خالصين ، عند العرب نحن إسرائيليين ونتعامل بطريقة لم نكن نتوقعها رغم حبنا العميق لهم . وعند حاكمنا الجديد  نحن عرب فلسطينيين عملاء  نلتقي المخربين في الخارج ، مشكلة  قائمة وستظل قائمة ، يصعب على الجميع تخيل مثل هذه الإشكالية.  هنا تطرح ميار يوسف قضية الأراضي  المحتلة مثل طنجة ويافا وحيفا . إنها أراض محتلة لا فرق . في رحلتها إلى الأندلس كانت ميار تراوح في مخيلتها بين الأندلس ويافا ، تبقى يافا في كل مواقع الأندلس،   الذهن هناك دوما  في ترميز واضح إلى احتلال فلسطين.   تعد رواية "جوبلن بحري " من أهم الروايات الصادرة  في فلسطين 48 في العشر سنوات الأخيرة و تستحق التقدير . دعاء مكانتك تؤهلك إلى مزيد من العطاء  بصورة أكثر توظيفا لطرق السرد الحداثية . جوبلن بحري ، هي تطريز ونقش خارطة  الوطن وهي تصبو إلى العودة الكاملة ، لكن  العمق العربي والتطور في القضية قد لا يسمح  الأن بذلك ، يكفي أنها عادت هي بعد غياب خمسة عشر عاما كانت تدرس وتعمل للاكتفاء الذاتي ، عادت لتزرع  بذرة الصمود والتوالد ،إنها روح الوطن الحاضر في روح التحدي ضد العنصرية التي تمارس يوميا ضد أبناء الشعب الباقي هنا .  
أخيرا أقول : لا توجد في الرواية  رائحة التطبيع كما يرى البعض ، ميار مضطرة للحجز في شركة الطيران الإسرائيلية.. لا مفر من ذلك .ومصافحتها قائد الطيارة  مقصودة  ، تريد أن تو صل لها رسالة ، أنني هنا أستاذة جامعية وعائدة إلى بلدي يافا لنزرع  جيلا جديدا يحمل رؤية الوطن الكبير.

البوابة 24