بقلم محمد جهاد إسماعيل
قبل أيامٍ قليلة رحل عن عالمنا المناضل إيدي كونواي أحد الأبطال الأسطوريين لحزب الفهد الأسود. رحل إيدي عن عمر يناهز ٧٦ عاماً، لكن حياته الفعلية لم تتجاوز التسع سنوات، فقد ذاق طعم الحرية متأخراً، وتحرر من سجنه عام ٢٠١٤، بعد ٤٤ عاماً قضاها وراء القضبان.
لقد نهش الظُلم ثُلُثي عُمر إيدي، فقد تم سجنه بسبب تهمة باطلة، لفقتها له الأجهزة الأمنية الأمريكية، وهي التورط في قتل الضابط الأبيض دونالد ساغر.
لربما أنهكت سنين السجن الطويلة جسد إيدي، لكنها لم تفت في عضد عزمه وروحه، فهو لم يخرج من سجنه مجنوناً ولا مضطرباً، بل خرج قوياً، متزناً، حكيماً، والأهم من هذا كله، أنه لم يخن المبادئ التي دخل السجن من أجلها.
قضى إيدي في سجنه قرابة نصف قرن من الزمان، بيد أنه لا يحمل الرقم القياسي لأطول فترة أسر يقضيها أسير من حزب الفهد الأسود، فالرقم بعهدة رومين فيتزجيرالد، الذي قضى ٥١ عاماً من عمره خلف القضبان.
تدهورت الحالة الصحية لرومين، وهو في سجنه، قبل عامين، فجرى نقله على إثر ذلك لإحدى مستشفيات كاليفورنيا. داخل حجرة العناية المركزة في المستشفى، كان رومين بحالة حرجة للغاية، وكان فاقداً للوعي تقريباً، إلا أن الشرطة أصرت بالرغم من ذلك، على تقييده بالأغلال والأصفاد، ثم أوثقته بالسلاسل في قضبان السرير الذي لفظ عليه أنفاسه الأخيرة!!.
مضى رومين مباشرةً من ظلمة سجنه إلى ظلمة قبره، مات مظلوماً، بعد حياةٍ قضى ثلاثة أرباعها في الأسر، مات رومين مقيداً، ولم تشفع له حرمة العناية المركزة، فقد لاحقه سجانوه إلى هناك، وفرضوا عليه القيد!.
نعم قضى رومين في أسره أزيد من النصف قرن بعام، لكنه لا يحمل الرقم القياسي لأطول فترة أسر يقضيها سجين سياسي أسود داخل السجون الأمريكية، فالرقم بعهدة روشيل ماغي. ما زال روشيل حياً في محبسه لغاية الآن، عمره يناهز ٨٤ عاماً، ومضى على تواجده في السجن ٦٠ عام!!.
كان روشيل في شبابه قد شارك في عملٍ بطولي جريء فيه الكثير من التضحية والإيثار، فقد شارك في محاولة تحرير المناضل جورج جاكسون ورفيقيه (إخوة سوليداد).
قبل أيامٍ أو أسابيعٍ قليلة، أفرجت سلطات الاحتلال عن الأسيرين كريم يونس وماهر يونس، صاحبا أطول تجربة أسر في السجون الإسرائيلية. لقد مكث كلٌ منهما في الأسر ٤٠ عاماً، فقد دخلاه شابين يافعين وخرجا منه عجوزين يجللهما الشيب.
وعند تحررهما، مضيا مباشرةً، من باب السجن إلى باب المقبرة، لقراءة الفاتحة وذرف الدموع عند قبور أهليهما. قبل أسابيعٍ قليلة، استشهد الأسير ناصر أبو حميد في إحدى المستشفيات الإسرائيلية، بعد معاناة مريرة مع السرطان والسجان.
قضى ناصر في المعتقلات الصهيونية نحو ٣٠ عاماً، وكان إجمالي محكوميته سبعة مؤبدات + ٥٠ عام!. رفضت سلطات الاحتلال تسليم جثمان ناصر لذويه، وأكدت أن الجثمان، سيبقى محتجزاً في الثلاجات، إلى أن تنقضي سنوات المحكومية!!.
رحل ناصر، لكن ظل عقل أمه مشغولاً بالسجن، وأنظارها شاخصة نحو أسواره العالية. فما زال لها أربعة أبناء آخرين، قابعين في الزنازين، جميعهم محكومون بالمؤبدات، أي محكومين بمئات السنين، فهل سيبقى الاحتلال ويبقى الظلم إلى ذلك الحين ؟!.
قد نعرف بعض أسمائهم، قد نطالع بعض أخبارهم، قد نتضامن مع قضاياهم، لكن لا نشعر بآلامهم، لا نسمع أناتهم، لا نرى الدمع في أعينهم، لا ندرك فداحة جرحهم ووحدتهم، لا نذوق بشاعة صَلبِهم وجَلدِهم، فلا نتخيل بعقلنا المحدود مدى وحجم تضحياتهم.
إنهم رجالُ الشمس، وأنصارها، وحواريوها، هم الذين ينتشلونا من قلب الظلمات إلى النور، هم من ينزعون قضبان الزنازين، ويحيلونها سلالم عظيمة، يصعدون بها عالياً، ويصافحون الشمس.