بقلم: محمد جهاد اسماعيل
نعم تدور فرنسا في فلك المنظومة الغربية، وهي تمثل جزءاً أساسيّاً منها، إلا أنها أكثر الدول تمرداً على هذه المنظومة. فقد شهدت العقود الستة الأخيرة الكثير من المشاغبات الفرنسية، بل كثيراً من المواقف الجريئة، التي خرجت بها باريس عن الإجماع الغربي، وخالفت بها صراحةً واشنطن. لم تحتج باريس الكثير من السنين بعد انتهاء الحرب العالمية الثانية، لتدرك أنها لا تستطيع التماهي مع المنظومة الغربية التي شكّلها واقع ما بعد الحرب العالمية، فهي لا تقوم على التشاركية، بقدر ما تقوم على تكريس الهيمنة الأميركية. ويعزّ على الفرنسيين أن يشاهدوا أنفسهم يتحوّلون من إمبراطورية ممتدة في كلّ قارات الدنيا، إلى مجرّد دولة خاضعة لواشنطن. وجد الفرنسيون أنّ انخراطهم بشكل فاعل في المنظومة الغربية وحلف الناتو - اللذين تتسيّدهما أميركا كلياً - يحدّ إلى حدّ كبير من سيادة الدولة الفرنسية، ونفوذها، واستقلالية قرارها، ويصادر بالتالي حقّها في رسم سياساتها التي تعبر عن قناعاتها الخاصة.
لذا لم يستكن الفرنسيّون أبداً حيال هذه المعادلة، بل عمدوا خلال العقود الأخيرة وبين الحين والآخر إلى المناورة، والمراوغة، والتململ، والتمرّد، بل والخروج أحياناً عن الصف الغربي. كان شارل ديغول المشاكس الأول أو الثائر الأول في ذلك المضمار، فقد ثار عام ١٩٦٦ على المنظومة الغربية، بإعلانه انسحاب بلاده من القيادة العسكرية لحلف الناتو. وقد ترتبت على ذلك الانسحاب جملة من النتائج، منها جلاء القواعد العسكرية الأميركية عن الأراضي الفرنسية. واصل ديغول قراراته الثورية الجريئة في عام ١٩٦٧، وذلك بفرضه حظراً على تصدير السلاح الفرنسيّ إلى إسرائيل. وقد بادر في أواخر الستينيات، لتطوير علاقته بعبد الناصر، فتحوّلت من خصومة وعداوة إلى تفاهم وصداقة. وقام خلفه بومبيدو بتزويد ليبيا بطائرات الميراج فائقة التطوّر. حتى في عهد ديستان، وميتران، وشيراك، استمرّت باريس تناور الغرب وتشاغبه، من خلال بعض السياسات والمواقف. ففي النصف الثاني من السبعينات، اضطلعت فرنسا ببناء البرنامج النووي العراقي. كما زوّدت الأرجنتين بصواريخ إكزوسيت، التي سحقت البحرية البريطانية في فوكلند. ولم تبخل على الجيش العراقي بأفضل أنواع الأسلحة. وعارضت بشدّة المشاركة في التحالف الأميركيّ لغزو العراق عام ٢٠٠٣. لكن في السنوات الأخيرة تبدّل الحال كليّاً، فقد تراجعت النزعة الديغولية الثائرة عند فرنسا، مما أضعف من هيبتها، واستقلالية قرارها، وقوّة حضورها في السياسة الدولية.
المنحنى آخذ في الهبوط منذ عهد ساركوزي وعودته بفرنسا إلى القيادة العسكرية للناتو عام ٢٠٠٩. باريس حالياً مُدجّنة وضعيفة أمام الناتو وواشنطن أكثر من أيّ وقت مضى. بحيث يتلقّى الفرنسيّون الصفعات المتتالية من الغرب، ولا يملكون حفظ هيبتهم وكبريائهم. آخر الصفعات التي تلقاها الفرنسيّون كانت من أميركا، التي حرّضت أستراليا على الانسحاب من صفقة الغواصات الفرنسية. لتتعاقد كانبيرا على شراء غواصات أميركية، بدلاً من تلك التي كان مزمعاً شراؤها من فرنسا. وفي أوج غضب باريس من غدر الأستراليين بها، أعلنت واشنطن عن قيام حلف عسكريّ أنغلوساكسونيّ يضمّ أميركا، وبريطانيا، وأستراليا. إعتبر الساسة الفرنسيّون حادثة الغواصات إهانةً في غاية البشاعة. وهم يشعرون أيضاً بالتجاهل، والتهميش، وعدم التقدير، من قبل أميركا وبعض القوى الغربية الأخرى، على أساس أنّ باريس لن تكون مفيدة وليس لديها ما تقدّمه، في صدام أميركا المرتقب مع الصين. كما ويشعر الفرنسيّون بالخذلان من الموقف الغربيّ السلبيّ، تجاه تآكل نفوذهم في وسط وغرب أفريقيا لصالح النفوذ الروسيّ. إذا ما ظلّت باريس على نهجها الحاليّ، فهي حتماً خاسرة. ستخسر مزيداً من النفوذ، وسينقص وزنها أكثر فأكثر في موازين القوى. فلن تجدي وداعة باريس ولن تنفعها عقلانيتها الزائدة. من أجل استدراك الموقف وإنقاذ ما يمكن إنقاذه، ينبغي على الساسة الفرنسيين استحضار الديغوليّة، كمنهج، وطريقة ثورية، لإدارة السياسة الدولية والعلاقات الخارجية. الشارع الفرنسي ساخط من تقهقر مكانة بلاده في الخارج. ونسبة كبيرة من تعداد الشعب تطالب بالانسحاب الفوريّ من الناتو. أيضاً على مستوى قادة الأحزاب وكبار الساسة والبرلمانيين، ثمّة مطالبات بضرورة مغادرة الناتو والخروج من عباءة واشنطن لحفظ ماء الوجه. كم يتوق الفرنسيّون لمجيء ديغول جديد. سينتظرونه، وننتظر معهم، علّ ذلك المُخَلِص يأتي.