بتول وعلي ألوانهم تدل عليهم

بقلم: أمل أبو قمر

في حضن أمها الشهيدة ، أجهشت بتول حزناً على فاجعة حلت بحارس مدرستها الجديدة ، رجلٌ كبير في السن فقد بيته وزوجته وبناته ، مسدت  أمها فوق وجهها وبكت معها و واستها  و واست  الزمن : نبكي على ماذا وأي ، قلوبنا لم تعد تحتمل أكثر من ذلك ، أدركت هذه الطفلة بصورة غير معهودة لدى الأطفال ، حجم المصيبة والوجع الذي أصاب رجلاً عابراً لا تعرف عنه سوى اسمه ، بكت لأنها كانت تعرف قيمة البيت والأهل ، ومدركة بشاعة الموت والفقدان ، وفظاعة أن يخرج الانسان من تحت انقاض بيته فاقداً أهله من غير حول منه ولا قوة

أكثر من صورة لهذا المشهد الانساني والشفاف ، بتول التي خرجت من رحم حلم سجين ، وامرأة متصلة اتصالاً دقيقاً مع الله _ فجاءت إلى فناء الدنيا بتولاً تحمل أحلام الكبار والصغار ، وتتمنى أن يركض بها الزمن كي تأخد مكتب أبيها القدوة في العمل الإنساني والخيري ، ووعدته بأنها ستكون مديرة لمدرسة أطفال من ذوي الإعاقة ، وما كان هذا التعبير ينبثق من بصر طفلة إلا بعد الاقتران ببيئة عرفت فيها معنى قوة الروح وزاد الطموح ..

بعد ليالي طويلة من الشتات والنزوح ولحظات ممتدة من البكاء والاشتياق للأب الحر الذي انطلق بحثاً عن حرية الأرض واسترداد كرامتها ، ومحاولات عدة للكتابة عما يلج في الصدر من شوق ولوعة وتعب ، خطت بتول بخطها البرئ بأنها تعبت من هذه الحرب التي باغتت حياتها الهنية وطفولتها الهادئة ، حاملة صوت أخويها الصغار في الاشتياق والحاجة ، وما إن انطلقت آهاتها تلك حتى التقطتها مسامع الطائرات والمدافع كشيطان متربص أمام بوابة الأمل .، 
بتول
( إن الله اصطفاكِ وطهركِ واصطفاكِ على نساء العالمين ) 
 تمزق جسدها بغمضة عين ، وحوله صاروخ مسعور إلى أشلاء طاهرة ومصطفاة اختلطت مع أشلاء أخيها علي ، 
وآه من علي ..
مشهدٌ آخر .. 
علي الذي تمسك بطفولته المطلقة حتى آخر لحظة ،والذي شكل صورة مصغرة عن الرحمة الإلهية التي يهبها الرحمن لعباده الرحماء آباءاً وأمهات ، فُعرف من خلاله معنىً عظيماً للحب والانتماء والحنان والاحتواء ، معنى ًلن تستطيع مدارس العالم أجمع تعليمه ، قتلته اسرائيل بدم بارد ، وشوهت وجهه الأبيض وشعره الناعم وجعلت منه جثة مهجورة لا يمكن التعرف عليها إلا بعد أيام وليالي من الأمل بالبقاء ، رحل علي تاركاً وراءه علبة شوكولاتة ممتلئة قفز فرحاً حينما وصلته تحت أصوات القذائف والصواريخ ، معبراً عن آدميته البحتة بالتمسك بكل ما هو عادي وطبيعي للانسان على وجه الأرض ، براءة انتهكت وروحاً نقية صعدت لخالقها ومرسلها .. 

طفلان من أطهر أجناس الأرض ، قضوا سبع سنوات في ضيافة أبيهم على الأرض ، جاءوا بعد رجاء طويل ومناجاة بالفرج ، أحسن أبوهم ضيافتهم ، و كانوا هُمْ الدنيا وما عليها ، ولا شئ تحمله الأرض يُمكن أن يرجح مقابل كفة وجودهم ومعنى وجودهم في ميزان الحياة والموت ، عاشوا كراماً ورحلوا كراماً ، قضت عليهم إسرائيل بأبشع صورة ،تركت خلفهم دوامات الحنين والوحشة ، وندية بالغة خرجت من صُلب رجلٍ  شديد لن يترك دم أطفاله سدى ، ميزانه وطن بأكمله ، وانقاذ شعب ذاق مرارة العدوان وهجمية الحرب ، 

IMG-20240320-WA0014.jpg
 

بتول وعلي ..
صورة راسخة في أذهاننا عن أطفال غزة الشهداء والذين سيظلوا يلاحقوننا بصورهم تلك ، و في كل مرة نتذوق فيها طعم الحياة من ابتساماتهم ، فيكبر فينا شعور التحدي بأن طفلاً واحداً دُفن في ساحلها ، سيكون ثمن رحيلهم بهذه الصورة المرعبة ، هو اعمار  مدينة هدم الاحتلال فيها كل معاني الحب والانسانية والأمل ..

البوابة 24