تقرير: أمنية أبو الخير
بعد 11 سنة من الانتظار والعلاج بين القاهرة وغزة، رُزق محمد راضي (54 عامًا) وزوجته نور بطفلهما نور، الذي حمل اسم أمه بقرار من أبيه، "تقديرًا منه على صبرها أكثر من 11 سنة على عدم قدرته على الإخصاب" كما يقول. لكن، لم يمض أكثر من سنتين على هذه الفرحة، حتى سلبها جيش الاحتلال بقتل الطفل نور في غارة على منزل مجاور لمكان نزوح عائلته، في 21 كانون أول/ديسمبر 2023.
محمد راضي وزوجته نور، كانا يحتفظان بأمل في تكرار تجربة الإخصاب، خاصة أن لديهما 8 أجنة محفوظة داخل مركز البسمة للإخصاب في غزة، غير أن الاحتلال لم يبق لهما حتى هذا الأمل، باستهدافه الأجنة المخصّبة في حربه على غزة
لم تكن هذه الضربة الوحيدة التي تلقاها محمد راضي وزوجته نور، فقد كانا يحتفظان بأمل في تكرار تجربة الإخصاب، خاصة أن لديهما 8 أجنة محفوظة داخل مركز البسمة للإخصاب في غزة، غير أن الاحتلال لم يبق لهما حتى هذا الأمل، باستهدافه الأجنة المخصّبة في حربه على غزة، "وهي آخر أمل لي أن أصبح أبًا، فعمري وعمر زوجتي لا يسمح لنا بتكرار عملية الإخصاب" أضاف محمد لـ الترا فلسطين.
هكذا، كانت قذيفة واحدة من دبابة إسرائيلية كفيلة بتحطيم أحلام مئات الأزواج الذين يعانون من مشاكل في الإخصاب بأن يعيشوا مشاعر الأبوة والأمومة. حدث ذلك في كانون أول/ديسمبر 2023، عندما قصف جيش الاحتلال مركز البسمة للإخصاب وأطفال الأنابيب غرب مدينة غزة، الذي كان يحتوي حاضنات تضم أجنة مجمدة.
القصف الإسرائيلي على مركز البسمة للإخصاب تسبب في نزع الأغطية عن 5 خزانات تحتوي على النيتروجين السائل، كانت في زاوية من وحدة الأجنة داخل المركز، ليتبخر السائل بالغ البرودة وترتفع درجة الحرارة داخل الخزانات، فيقضي الاحتلال بذلك على أكثر من 4 آلاف من أجنة أطفال الأنابيب، إضافة إلى ألف عينة أخرى لحيوانات منوية وبويضات غير مخصبة كانت هي الأخرى مخزنة في هذه الغرفة.
يقول محمد راضي: "علمت عن موضوع استهداف الأجنة من زوجتي، التي سمعت بالخبر من إحدى الإذاعات، وبحثت في الانترنت لتتأكد أن آخر أمل كان لنا قد تبخر".
بهاء الدين الغلاييني (73 سنة)، استشاري أمراض النساء والتوليد، ومالك مركز البسمة للإخصاب ومؤسسه، هو الآخر انفطر قلبه عندما علم بخبر استهداف غرفة حفظ الأجنة، "فهي الغرفة الوحيدة في قطاع غزة التي يتم فيها حفظ الأجنة، إذ أن كل المراكز ترسل الأجنة لهذه الغرفة" يقول الغلاييني لـ الترا فلسطين.
منذ اليوم الاول للحرب على غزة، وقبل مغادرته غزة إلى مصر، انشغل بهاء الدين الغلاييني بمحاولة إنقاذ غرفة الأجنة. وأكد الغلاييني لـ الترا فلسطين، أنه تواصل مع العديد من الجهات المحلية والدولية لنقل الأجنة إلى المنطقة الجنوبية، "وللأسف لم يستجب أحد لهذه المناشدات أو الطلبات".
وتحتاج خزانات الأجنة أن يتم إعادة تعبئتها بالنتيروجين كل شهر تقريبًا للحفاظ على درجة الحرارة دون 180 تحت الصفر في كل خزان من الخزانات الخمسة التي تحتوي على الأجنة، وتعمل دون الاعتماد على الكهرباء.
وأوضح بهاء الدين الغلاييني، أن كبير أطباء الأجنة في مركز البسمة للإخصاب، الدكتور محمد عجور، تمكن من شراء دفعة واحدة من النيتروجين السائل بعد شهر من بداية الحرب، لكن إسرائيل أقفلت المعابر وتوقف معظم الموردين عن العمل، لذلك لم يستطع شراء المادة بعد ذلك.
وقال: "لم تكتفي إسرائيل بمنع توريد المواد، بل استهدفت أيضًا الغرفة لتنهي الحياة التي كانت محتملة للآباء والأمهات في المستقبل".
يرى بهاء الدين الغلاييني، أن منع توريد النيتروجين، ثم رفض الاحتلال نقل الأجنة إلى جنوب قطاع غزة، وكون غرفة الأجنة أول مكان تم استهدافه في مركز البسمة للإخصاب، هذا كله يثبت أن الاحتلال تعمد هذا الاستهداف.
ويضيف الغلاييني، "كما أن الجيش يتعمد من خلال استهدافاته قتل الأطفال والنساء الحوامل إلى درجة قتل الأجنة في أرحام الأمهات. كل ذلك أدلة على أن الجيش يحارب أي أمل للإنجاب عند النساء في قطاع غزة".
ويؤكد بهاء الدين الغلاييني أن، على الأقل، نصف الأزواج الذين يحتفظ مركز البسمة للإخصاب بالأجنة والحيوانات المنوية خاصتهم لديه لن تكون لهم فرصة أخرى للإنجاب، إذ لم تعد لديهم القدرة على إنتاج حيوانات منوية أو بويضات قابلة للتلقيح، إما لكبر سنهم، أو لحاجتهم إلى فترة علاج جديدة، وهي مكلفة جدًا.
على الأقل، نصف الأزواج الذين يحتفظ مركز البسمة للإخصاب بالأجنة والحيوانات المنوية خاصتهم لديه لن تكون لهم فرصة أخرى للإنجاب، إذ لم تعد لديهم القدرة على إنتاج حيوانات منوية أو بويضات قابلة للتلقيح
وأشار الغلاييني إلى أن أغلب من خاضوا رحلة العلاج والإخصاب اضطروا لبيع ممتلكات ثمينة من أجل توفير تكاليف هذه الرحلة.
ويوضح بهاء الدين الغلاييني، أن الفلسطينيين في قطاع غزة يلجؤون لتجربة الإنجاب عبر التلقيح الصناعي بمجرد معرفة أن هناك مشكلة في الإنجاب، "ومن أجل هذا الحلم يدفعون مبالغ كبيرة ويتحملون كل الضغوطات المالية والنفسية والجسدية كذلك ليتحقق حلم أن يكون لديهم أطفال".
الكلفة الباهظة لهذه العلاجات ليست مادية فقط، بل نفسيًا وجسديًا كذلك، وفق صبا جعفراوي (32 عامًا)، التي عانت كثيرًا خلال خضوعها لعلاج الخصوبة الذي استمر أكثر من ثلاث سنوات.
أكثر ما آلم صبا جعفراوي كانت عملية استخراج البويضات، كما أن لحقن الهرمونات آثار جانبية قوية على جسدها ونفسيتها. وتضيف صبا، أن لفشل محاولات الزراعة "مشاعر لا يمكن وصفها، تصل إلى كل من يعرفك".
بعد سنة واحدة من زواجها، بدأت صبا جعفراوي مع زوجها تجربة زراعة الأجنة، وأجرت عمليتين لم يُكتب لهما النجاح، أولاهما في عام 2022، والثانية بعد شهور فقط.
وتوضح صبا جعفراوي، أن العمليتين كانتا بعد مرحلة علاج وتحسن للبويضات لديها، وهذا ساعد في تجميد عدد من هذه البويضات كونها أصبحت مناسبة للتلقيح، "وفي كل مرة قمت بعملية الزراعة كنت استخدم البويضات المجمدة".
محاولة صبا وزوجها الثالثة كانت أفضل من سابقتيها، وكُتب لها النجاح، فحملت صبا في أيلول/سبتمبر 2023 عبر التلقيح الصناعي. تقول: "كنت أشعر بالفرحة والاطمئنان، فقد نجح الحمل، ولدي أيضًا عدة فرص، إذ كان لي خمس بويضات مجمدات يمكن استخدامها في أي وقت".
بعد أقل من شهر على حملها، أطلقت إسرائيل حرب الإبادة الجماعية ضد قطاع غزة، ونتيجة لهذه الحرب لم تستطع صبا جعفراوي متابعة الحمل أو مراجعة الدكتور لشهر ونصف، نزحت خلالهما إلى جنوب قطاع غزة، تنفيذًا لأوامر جيش الاحتلال الذي كان قد بدأ حينها اجتياحًا بريًا لشمال قطاع غزة، وزعم أن جنوب القطاع منطقة آمنة للمدنيين.
تضيف صبا، أن عملية النزوح رافقتها صعوبات كبيرة، تتعارض مع حملها الجديد، "إذ كان من المفترض أن أرتاح ولا أتحرك كثيرًا بناءً على طلب الأطباء، ولكن تعرضت للكثير من التعب والإرهاق الجسدي والضغط النفسي في الشهور الأولى من حملي، من بينها قصف منزل بجانب مكان نزوحها، واستنشاقها الفسفور الأبيض.
غادرت صبا جعفراوي قطاع غزة في 12 تشرين ثاني/نوفمبر 2023، تقول: "لقد شعرت بالراحة النفسية والأمان، لأني سأكمل حملي بسلام، وسأجد من يهتم بحملي ويوفر لي الاحتياجات من أدوية وطعام مناسب لحملي".
بعد رحلة "متعبة جدًا" استمرت يومين، وصلت صبا جعفراوي إلى القاهرة، وهناك علمت أنها حامل بتوأم، وصحتهما جيدة، لكن قبل اكتمال الأسبوع الثاني فوجئت صبا بنزيف وألم شديد، ليتبين إجهاضها وفقدان حملها.
فقدان صبا جعفراوي لجنينيها دفعها إلى الاتصال بطبيبها في غزة سائلة عن مصير الأجنة المجمدة، فأجابها الطبيب بأن "حاضنات الأجنة تحتاج للكهرباء، وهي مفصولة منذ بداية الحرب ولكنها بخير"، ما زرع لديها الأمل بأن هناك فرصة لتكرار عملية زراعة الأجنة.
لاحقًا، بعد القصف الإسرائيلي، علمت صبا جعفراوي بتدمير غرفة الأجنة في مركز البسمة للإخصاب صدفة، عندما شاهدت على هاتفها فيديو لطبيبة من الأردن تتحدث عن الأجنة المجمدة في قطاع غزة، وقصف أكبر مستشفى لزراعة الأجنة الذي يضم حاضنات أجنة.
تقول صبا إن الخبر أدخلها "في حالة بكاء هستيري"، وتضيف: "شعرت بالقهر والظلم. لماذا يتم قصف هكذا مستشفى وإهدار أمل مئات العائلات، بينها أنا وزوجي؟ لقد ضاع الأمل بأن أكرر عملية الزراعة".
وتؤكد صبا جعفراوي أن "كل سيدة احتفظت بالأجنة لا تقل عن أي أم فقدت طفلها او أبنها". وتضيف: "أجاني شعور أن أجنَّتي شهداء بسبب الحرب وحسيت بشعور كل أم استشهد طفلها، مع أني ما شفتهم وما كملت، بس صدقيني الشعور واحد وشعور صعب".
ولا تعرف صبا متى سيكون بإمكانها إعادة تجربة زراعة الأجنة، "فقد فقدنا مصدر دخلنا في غزة، كما أنني لم أتخطى ما حصل معي نفسيًا وجسديًا" كما تقول. ولا تشك صبا في أن الاحتلال "يتعمد استهداف كل العيادات التي تجري عمليات إخصاب، فهذه الحرب لا يوجد بها صدفة، فكل شيء متعمد ومقصود".
وتؤكد صبا جعفراوي أن الشعب الفلسطيني في غزة "سرعان ما يلملم جراحه، فهو محب للحياة وسيكرر كل التجارب، بما فيها تجارب الإخصاب والأنجاب، لتعويض ما قتله الاحتلال".
مركز البسمة للإخصاب، بعد استهدافه بعدة قذائف، يحتاج إلى 300 ألف دولار لبناء الطابقين من أجل إعادة بنائه، ولأكثر من 200 ألف دولار لتجهيزه بالأجهزة وغرف الولادة وغيرها من احتياجات
ومثلها أيضًا، الطبيب بهاء الدين الغلاييني، يؤكد نيته العودة إلى غزة بعد انتهاء الحرب، ويقول: "سأعيد بناء المركز وتجهيزه أفضل مما كان عليه، ولن أترك غزة وحيدة في هذا الأمر، موضحًا أن مركز البسمة للإخصاب، بعد استهدافه بعدة قذائف، يحتاج إلى 300 ألف دولار لبناء الطابقين من أجل إعادة بنائه، ولأكثر من 200 ألف دولار لتجهيزه بالأجهزة وغرف الولادة وغيرها من احتياجات.
ويضيف، "سنعيد المركز ونجد حلولاً لكل من تأذي من فقدان الأجنة أو الحيوانات المنوية، وهذه رسالة نؤمن بها".
يُذكر أن 9 عيادات على الأقل في غزة تجري عمليات التلقيح الصناعي التي تُجمع فيها البويضات من مبيض المرأة وتخصب بالحيوانات المنوية للزوج في المختبر. وغالبًا ما تُجمد البويضات المخصبة، التي تسمى أجنة، حتى يحين الوقت الأمثل لنقلها إلى رحم المرأة، بينما تُخّزن معظم الأجنة المجمدة في غزة في مركز البسمة للإخصاب، كونه المركز الوحيد الذي يملك هذه الإمكانيات من أجهزة وأطباء.