الحكيم ومحور فيلادلفيا

 

حذرنا الحكيم قائلاً: "يا ليت قومي يعلمون." 
في صباح يوم هادئ، كان الحكيم يعمل بجد في أرضه، يهتم بمحاصيله ويحرث تربته، حين ظهر أمامه رجل غريب بملامح ودودة وابتسامة عريضة. قدم نفسه قائلاً: "أنا أبو داوود، سمعت كثيراً عنك وعن حكمتك، وأود أن أساعدك في عملك." تردد الحكيم في البداية، حيث أن هناك شيء ما لم يشعره بالراحة. ومع ذلك، وبعد لحظة من التفكير، قرر أن يقبل العرض، خاصة بعد أن رأى في عيني أبو داوود ما بدا وكأنه صدق نواياه.

مع مرور الأيام، كان أبو داوود يزداد تقرباً من الحكيم، يساعده في كل صغيرة وكبيرة، ويقدم له النصائح وكأنهما صديقان قديمان. ولكن الأمور لم تبقَ على حالها, حيث أخذت منحى لم يكن يتوقعه الحكيم  

مع مرور الأيام، تحسنت الارض وانتاجها بفضل جهودهما المشتركة. وفي جلسة هدوء وصفاء، اقترح ابو داوود بناء غرفة صغيرة ليبقى قريبًا ويساعد الحكيم بشكل دائم. تردد الحكيم، محاولا قراءة ما بين السطور، ثم وافق على العرض، وتم بناء غرفة صغيرة.  وازداد نشاط ابو داوود ومساهمته في العناية بالأرض ومحاصيلها. 

بعد فترة، طلب ابو داوود من الحكيم أن يسمح له  باحضار زوجته وولديه للعيش معه في الغرفة، ليقوموا ايضا بالمساعدة. مرة اخرى تردد الحكيم، ثم وافق على ذلك. وأتت زوجة ابو داوود واولاده داوود و شلومو. 

وفي أحد الأيام، تبدلت الأحوال وكأن كارثة كبرى حلت بعائلة الحكيم. فقد اختفى أبناء الحكيم، وبعد فترة طويلة من البحث والقلق، تم العثور عليهم محتجزين في غرفة أبو داوود. وهدد أبو داوود بقتلهم مدعيًا أنه تعرض لاستغلال كبير.

ثم طالب أبو داوود الحكيم بالتنازل عن المنزل وجزء من الأرض مقابل إنقاذ حياة أطفاله. رفض الحكيم التنازل عن أرضه التي ورثها عن آبائه وأجداده. فقد كانت أغلى ما يملك، فالأرض كالعرض لا يمكن التنازل عنها. ولكن الوسيطين حاييم وبنيامين جاءا مع من الرحال الذين   يلبسون ثوب الإصلاح، محاولين إقناع الحكيم بقبول التنازل عن نصف الأرض.، فقالوا له: "أي الأمرين أسهل، خسارة الأولاد أم الأرض؟". فرد الحكيم دون تردد: "أفدي أولادي بكل الأرض". ابتسم حاييم وقال: "اذن وافق على العرض حالا، أبو داوود رجل خلوق وكريم، وليس بطماع. لا يرغب في قتل أطفالك، ولا يريد الاستحواذ على الأرض كاملة، بل يطلب نصفها فقط." ، وشجعه رجال الإصلاح على القبول بهذا العرض السخي، فالصفقة تتضمن إنقاذ الأولاد ونصف الارض. 

وافق الحكيم على مضض، رغم شعوره بالألم والغبن والغدر. وبعد أن تم إطلاق سراح أطفاله، بدأ أبو داوود يفتخر بما فعله، ويقول: "لقد أنقذت حياة أبنائه، فما قيمة الأرض مقارنة بحياتهم؟" وكان يزيد على ذلك: "عرض الحكيم التنازل عن الأرض كاملة، لكنني قبلت بالنصف فقط ومنحته النصف الآخر."

عندما عاد المختار من رحلة الحج وسمع بما جرى، قال للحكيم: "لقد حذرتك من هذا الرجل. هذا هو أسلوبهم، يبدأون باللطف ثم يتحولون إلى الابتزاز."

وهذا ما جرى في فلسطين بشكل عام، حيث نبذهم العالم، لكن الشعب الفلسطيني استقبلهم بحسن نية، ثم بدل من الشكر  والامتنان، ارتكبوا جرائم القتل واحتلوا فلسطين في عام ١٩٤٨. قامت الثورة  الفلسطينية لاسترجاع فلسطين، و لكن في عام ١٩٦٧، تم احتلال  الضفة الغربية وأصبح الحديث والنضال يقتصر على  استرجاع الضفة الغربية،  وبمرور الوقت  أصبح الحديث عن تحرير فلسطين كاملة من المحرمات . وفي مؤتمر اسلوا تم  عرض إقامة الدولة الفلسطينية على مساحة ١٨٪؜ من أراضي الضفة الغربية، اي اقل من ٦٪؜ من مساحة فلسطين. 

‎اليوم، تُغتصب غزة وتصرخ مستنجدة، بينما العالم يقف متفرجًا على أبشع جرائم الحرب والإبادة، بل البعض يشارك بشكل مباشر في حرب الإبادة هذه . يأتي الوسطاء، حاييم وشلومو ومن معهم يلبسون ثوب الإصلاح، ليفاوضوا بنفس الأسلوب الماكر، قائلين: "سننقذ نصف الشعب ونعطيكم نصف الأرض...، سنخفض عدد الحواجز على معبر فلاديلفيا من ثمانية إلى اثنين"، يتم هذا بخبث ودهاء في محاولة لتحويل الانتباه والنقاش إلى قضايا ثانوية، واختزال قضية فلسطين والمجاز التي تم ارتكابها في غزة بمحور فيلادلفيا.

 

سيتم بناء 8 حواجز ونقاط تفتيش على معبر فيلادلفيا، والعالم يحاول، عبر سيناريو مُعد مسبقًا وأدوار متفق عليها، إقناع "ابو داوود" المتمثل بحكومة الاحتلال بالاكتفاء بنقطتي تفتيش فقط. ثم يعودون ليقولوا للحكيم و أهل فلسطين غزة: "لقد أبدى ابو داوود ومن معه  حسن النوايا وتنازل كثيرًا، حان دوركم الآن لتظهروا حسن النوايا وتتنازلوا من طرفكم. 

‎وهكذا يعيد التاريخ نفسه. على مدار ثمانية أشهر، قُتل الآلاف وارتُكبت المجازر في حرب إبادة شاركت فيها معظم دول العالم بشكل مباشر أو غير مباشر. تم تدمير المساجد والمدارس والجامعات والكنائس. وبعد ذلك، قاموا باحتلال محور فلادلفيا، واختزلوا جميع المجازر في هذا المحور. أصبح النقاش يدور حول عدد نقاط التفتيش والحواجز في هذا المحور، سواء كانت ثمانية أو اثنتين. سيأتي من يقول: "عليكم أن تكونوا شاكرين، فقد تم تقليص عدد نقاط التفتيش من ثمانية إلى اثنين." وسيأتي من يتشدق  قائلاً: "لقد أتيحت لكم فرصة لاستعادة الجزء الأكبر من محور فلادلفيا، لكن كعادتكم، أهل فلسطين محترفون في تفويت الفرص."

لقد صدق الحكيم حين حذرنا من هذا الأسلوب الخبيث، وحين قال "يا ليت قومي يعلمون".

الحكيم

البوابة 24