عقب سقوط نظام بشار الأسد وفتح أبواب سجن صيدنايا المعروف بسمعته السيئة في سوريا، تكشفت حقائق مروعة عن المجازر وأساليب التعذيب التي انتهجها النظام السوري منذ عهد حافظ الأسد وصولاً إلى حكم ابنه بشار الأسد.
وأتضح أن السجن لم يكن مجرّد مسلخ بشري في وصفه، بل كان فعلا لا قول، ومع فتح سجون أخرى لاحقاً، ظهرت المزيد من الأدلة المروّعة.
خبرة ضباط نازيين
كشفت عدة تقارير أن النظام السوري استعان بخبرة ضباط نازيين فعليين شاركوا في الهولوكوست، وقدموا المساعدة في بناء نظام "المسالخ البشرية" ومعتقلات التعذيب منذ ستينيات القرن الماضي بما في ذلك سجن صيدنايا العسكري.
بعد 10 سنوات من اعتقاله.. سيدة سورية تعثر على جثة نجلها في دمشق وتنهار باكية أمام الكاميرات #سوريا#قناة_العربية pic.twitter.com/80jv45XPBS
— العربية (@AlArabiya) December 14, 2024
والجدير بالإشارة أن النظام السوري قد استعان بخبرة ضباط نازيين مثل آلويس برونر، الذي كان مستشاراً أمنياً لحكومة البعث، ويشار إلى أن برونر كان أحد المساعدين المقربين لأدولف آيخمان المسؤول عن ترحيل آلاف اليهود إلى معسكرات الموت. بعد الحرب العالمية الثانية، وجد برونر طريقه إلى سوريا حيث وفرت له دمشق ملاذاً آمناً.
وقد قام "برونر" بتدريب ضباط الاستخبارات السورية على أساليب قمع ممنهجة، تضمنت الاستجواب والتعذيب الوحشي، وشارك في بناء شبكة استخبارات تهدف إلى سحق أي معارضة، حيث قدموا المساعدة في بناء شبكة من "مسالخ بشرية" ومراكز تعذيب منذ الستينيات، بما في ذلك سجن صيدنايا.
خبرة النازيين الحقيقية
فقد كشفت التقارير أن النظام السوري استفاد من خبرة النازيين الحقيقية بشكل أثبتته صور الناجين من المعتقلات التي فتحت أبوابها للمرة الأولى مع سقوط النظام.
وفي هذا السياق، كشفت صحيفة "غارديان" البريطانية أن تحول سوريا إلى ملاذ آمن للنازيين بعد الحرب العالمية الثانية لم يكن بمحض الصدفة، بل جاء نتيجة الظروف السياسية المضطربة والبحث عن أدوات تعزز السيطرة، وقد وفرت دمشق ملاذاً آمناً لشخصيات بارزة مثل آلويس برونر، المساعد المقرب للمسؤول عن ترحيل آلاف اليهود إلى معسكرات الإبادة. وجد برونر طريقه إلى سوريا خلال خمسينيات القرن الماضي، ليس فقط كلاجئ سياسي، بل أيضاً كمستشار أمني لنظام "البعث".
كما شدد المؤرخ الإسرائيلي داني أورباخ،على أن هذه الحقائق في كتابه "الهاربون" عن النازيين الفارين، وأشار الباحث الإسرائيلي إفرايم زوروف إلى أن برونر نقل للنظام السوري أساليب استخباراتية تعتمد على التعذيب وانتزاع الاعترافات.
وبحسب التقارير، كان "برونر" يعمل تحت اسم مستعار كمستشار ومعلم لضباط الاستخبارات السورية، مستفيداً من خبرته التي اكتسبها خلال الحقبة النازية في الاستجواب والتعذيب، ولم يقتصر دوره على تقديم نصائح تقنية، بل ساهم في بناء أساليب قمع منهجية تهدف إلى القضاء على أي شكل من أشكال المعارضة، وهو الإرث الذي اعتمد عليه النظام السوري حتى آخر أيام وجوده في دمشق، السبت الماضي.
ليست مجرد نصائح
وخلال السنوات الطويلة الماضية، بذلت أجهزة الشرطة الدولية وعملاء استخبارات محاولات حثيثة للوصول إلى الضابط النازي المختبئ في دمشق، وتمكن الكثير من الضباط النازيين من الفرار بعد انتحار هتلر وسقوط برلين في أيدي قوات الحلفاء. واللافت أن العلاقة التي جمعت النظام السوري بقيادة الأسد بالنازيين أصبحت محوراً للنقاش في وسائل الإعلام العالمية والعربية خلال السنوات الأخيرة.
كان مقربا من الأسد الأب
والجدير بالإشارة أن ألويس برونر، الضابط النازي البارز، كان مقرباً من حافظ الأسد، حيث عاش في سوريا لمدة أربعين عاماً تحت حماية نظامه. في مقابل تلك الحماية، أبرم برونر اتفاقاً مع الأسد في الستينيات عقب سيطرة حزب "البعث" على السلطة عام 1963.
وقد ولد ألويس برونر عام 1912، وكان له دور بارز في إدارة معسكرات الإبادة النازية في أوروبا، وبعد سقوط النازية، نجح في التسلل بين اللاجئين باستخدام اسم مستعار، ليعمل سائقاً لدى الجيش الأميركي. وفي عام 1953، فرّ إلى مصر بجواز سفر يحمل اسم جورج فيشر، ثم انتقل لاحقاً إلى سوريا.
وفي سوريا، التقى برونر بزميله النازي فرانتز رادماخر، الذي شغل سابقاً منصب رئيس مكتب الشؤون اليهودية في ألمانيا خلال الحقبة النازية. وقد تعاون الاثنان في العمل ضمن شركة "شركة الشرق للتجارة" (Orient Trading Company)، التي أسسها رادماخر.
اكتشف الأميركيون أمره
وخلال عام 1961، نجح الأميركيون، بعد تحقيقات مكثفة، في كشف هوية فيشر المقيم في دمشق باعتباره الضابط النازي ألويس برونر، وفي نفس العام، تلقى برونر في دمشق رسالة بريدية مفخخة فقد على إثرها إحدى عينيه، ما جعله يدرك أن هويته قد انكشفت. أما اللقاء الحاسم بينه وبين النظام السوري، فقد تم في عام 1966 عندما كان حافظ الأسد يشغل منصب وزير الدفاع.
كما استفاد حافظ الأسد بشكل كبير من خبرات برونر، الذي وصفه رئيس جهاز "الغوستابو" أدولف آيخمان في مذكراته بأنه "واحد من أفضل الرجال". وقد قدم الأسد له الحماية اللازمة في سوريا مقابل خدماته الأمنية والاستخباراتية.
وعمل "برونر" كمستشار أمني غير رسمي للأسد خلال فترة تصفية المعارضة، سواء من البعثيين أو غيرهم، عبر الاغتيالات والاعتقالات، وبعد خمس سنوات، وتحديداً في عام 1971، تولى حافظ الأسد السلطة رسمياً عبر انقلاب عسكري أطلق عليه "الحركة التصحيحية"، كان للضابط النازي دور محوري في تأسيس النظام الأمني السوري، الذي اشتهر بأجهزته القمعية وأساليب مراقبة لا مثيل لها.
وشدد أحد ضباط المخابرات الفرنسية، الذي كانت له علاقات وثيقة في دمشق خلال الثمانينيات، على أن برونر كان يتمتع بدور استشاري سياسي قريب جداً من حافظ الأسد، مما جعل تأثيره ممتداً داخل أجهزة النظام.
"الكرسي الألماني"
ويعتبر "الكرسي الألماني" من أبرز أدوات التعذيب المبتكرة، إذ يكسر العمود الفقري للضحايا عن طريق تمديد الظهر وتقويسه للخلف بشكل مبالغ فيه، وتم توثيق استخدام هذه الطريقة وأساليب أخرى مشابهة لما جرى في معسكرات الاعتقال النازية، وكثيرًا ما تم افتراض أنَّ هذا الاختراع يعود إلى ألويز برونر، بحسب ما قال داني أورباخ.
ويجدر الإشارة إلى أنه لا توجد معلومات دقيقة حول وفاة ألويس برونر، حيث تشير تقارير متضاربة إلى أنه توفي عام 1992، بينما تفيد مصادر أخرى بأنه توفي عام 2010 عن عمر يناهز 98 عاماً.
تكتسب هذه الحقائق طابعاً مرعباً بسبب التشابه الكبير بين أساليب التعذيب في سجون النظام السوري وبين الأساليب النازية، كما وثقت الشهادات في سجن تدمر، استخدام العقوبات الجماعية والتعذيب الجسدي الممنهج، وهو ما يعيد إلى الأذهان وحشية معسكرات الاعتقال النازية، وفي سجن صيدنايا، أظهرت التقارير وجود "غرفة المكبس"، وهي منشأة مخصصة لإعدام أعداد كبيرة من الأشخاص دفعة واحدة عبر الضغط المكاني.
كما أظهرت الوثائق استخدام النظام السوري للمقابر الجماعية للتخلص من الجثث، إلى جانب شهادات الناجين التي تحدثت عن استعمال الأحماض الكيماوية لتسريع عملية تحلل الجثث وإخفاء الأدلة، مما يضيف بعداً جديداً من القسوة إلى هذه الجرائم الممنهجة.
"غرفة المكبس"
وتشير التقديرات إلى أن عدد الضحايا الذين لقوا حتفهم في سجن صيدنايا وحده يتراوح بين 13 ألفاً و20 ألف معتقل خلال الفترة ما بين عامي 2011 و2015 فقط، وهو ما يعكس بشكل جزئي حجم المأساة المستمرة ويكشف عن الوحشية المتواصلة للنظام في قمعه الذي استمر طوال 54 عاماً.
وعلاوة على التعذيب الجسدي، كانت أساليب التعذيب النفسي تستخدم بشكل ممنهج لتدمير إرادة المعتقلين. شملت هذه الأساليب الحرمان المستمر من النوم، سماع أصوات تعذيب الآخرين، وخلق بيئة من اليأس والخوف المستمرين. وكان الهدف من هذه الممارسات ليس فقط الحصول على المعلومات، بل أيضاً سحق الروح الإنسانية بالكامل.
ومن بين هذه الأساليب كانت غرف الملح التي تُوضع فيها الجثث حتى يحين وقت نقلها، في الوقت نفسه، كان يحرم المعتقلون من الملح تماماً في كميات الطعام التي يحصلون عليها، مما يُضعف أجسامهم جسدياً، ويتم أخذهم إلى تلك الغرف بين الحين والآخر ليفاجَأوا بكميات ضخمة من الملح الذي دفنت فيه الجثث.
والجدير بالذكر أن النظام السوري يعتمد على أساليب مشابهة لتلك التي استخدمتها ألمانيا الشرقية (DDR) في كتابة التقارير ضد الأفراد المشتبه في معارضتهم للنظام.