رشا أبو جلال
في منزل متواضع يملؤه الصمت في مدينة غزة، كانت رنا مهنا (34 عاما) تعيش مع زوجها ويجمعهما حلما مشتركا، هو أن يمتلئ منزلهما بضحكات طفل صغير ينادي "ماما بابا" ويملأ حياتهما بهجة.
على مدار 13 عاما من الزواج، حاول الزوجان الإنجاب لكن دون فائدة، وظل هذا الحلم بعيد المنال رغم محاولات العلاج والزيارات المتكررة للأطباء.
قبل شهرين فقط من اندلاع الحرب الإسرائيلية على قطاع غزة في السابع من أكتوبر 2023، قررت رنا وزوجها زيارة مركز البسمة للإخصاب وحفظ الأجنة، الذي يعد أهم مركز في قطاع غزة لتجميد النطف وتلقيح البويضات.
كانت الخطوة الأولى قد بدأت بالفعل، حيث أجرت الفحوصات اللازمة، وتم حفظ بويضاتها ونطف زوجها في المركز تمهيدًا لإجراء التلقيح. شعرت حينها أن الحلم أصبح أقرب من أي وقت مضى.
تقول رنا: "كنت أعد الأيام، أنتظر اللحظة التي يخبرونني فيها أن العملية نجحت، وأنني سأحمل طفلي بين يديّ. كنت أعيش على هذا الأمل، وأخطط لكل تفاصيل حياتنا معه."
ولكن في أحد أيام الحرب القاسية، جاءها الخبر الذي هدم كل ما كانت تبنيه في خيالها. غارة إسرائيلية استهدفت مركز البسمة في ديسمبر 2023، ودمرت أجزاء منه، ما أدى إلى تلف جميع البويضات المخصبة.
تصف رنا التي أجبرتها الحرب على النزوح مع زوجها إلى مدينة دير البلح وسط قطاع غزة، شعورها في تلك اللحظة قائلة: "شعرت وكأن صاروخا أصاب قلبي. كل شيء انتهى، ليس فقط المركز، بل أملي، حلمي، مستقبلي كله. لقد قضوا على آخر خيط كان يربطني بالأمومة".
كانت رنا تعيش على أمل الإنجاب إلى درجة أنها قامت بتجهيز غرفة داخل منزلها مخصصة لطفلها التي لطالما انتظرته، ولكن الحرب لم تدمر مركز البسمة الذي كان يحفظ بين جدرانه حلمها، بل أتت أيضا على منزلها وحولته إلى ركام بشكل كامل.
تضيف بحزن: "لعدة سنوات كان صوت ضحكات طفل ترن في أذني بشكل مستمر، وكنت قريبة جدا من سماع كلمة ماما، لكن الحرب حرمتني منها".
لم يكن تدمير مركز البسمة مجرد خسارة مادية، بل كان اغتيالا لأحلام الآلاف مثل رنا، التي تضيف: "هذه ليست حربا على الأرض فقط، بل حرب على الأرواح والأحلام. لقد أخذوا منا حتى الحق في أن نحلم".
رحلة طويلة نحو الأمومة
بالنسبة لمنيرة شاهين (32 عاما)، كانت رحلتها الطويلة نحو الأمومة مليئة بالعقبات والآلام، ولكنها كانت تتمسك بالأمل رغم كل شيء.
بعد ثلاث سنوات من العلاجات المؤلمة، والانتظار الثقيل، أخبرها الأطباء في سبتمبر 2023 أنها حامل لأول مرة عبر التلقيح الصناعي، وأنها تحمل في رحمها توأما. كان هذا الخبر بمثابة شعاع اخترق عتمة حياتها، وأضاء قلبها بحلم طالما راودها.
تقول منيرة بابتسامة حزينة وهي تستعيد ذكريات ذلك اليوم: "لم أصدق حين سمعت الخبر. بكيت من شدة الفرح. لأول مرة شعرت أنني سأكون أما، وأنني سأحمل أطفالي بين يدي، وأناديهم بأسماء اخترتها لهم منذ سنوات".
لكن الفرحة لم تدم طويلاً. بعد شهر واحد فقط، اندلعت الحرب، وأصبحت حياتها وحياة الجنينين في خطر.
الغارات العنيفة التي لم تتوقف في مدينة غزة لم تترك خيارا لمنيرة وزوجها سوى النزوح من منزلهما إلى الجنوب.
تقول منيرة: "في تلك الليلة المروعة، كان القصف شديد جدا، وكان الناس يهربون، حملت حقيبة صغيرة فيها أوراقي الطبية وبعض الملابس، ولم نجد أي مركبة لتنقلنا إلى خارج منطقة القصف، لذلك اضطررنا للسير مسافة ثلاثة كيلومترات بحثا عن الأمان".
تصف منيرة تلك اللحظات قائلة: "كنت أشعر بألم في بطني مع كل خطوة أخطوها. جسدي كان يصرخ، لكن لم يكن هناك خيار آخر. كنت أتمسك بأطفالي، وأردد في قلبي دعاءً ألا يصيبهم أي مكروه".
لكن الإجهاد الجسدي والنفسي كانا أقوى مما تحملته منيرة، وتقول: "بعد أيام قليلة من النزوح، بدأت أشعر بمضاعفات صحية خطيرة. هرع زوجي بي إلى أحد المستشفيات التي كانت بالكاد تعمل وسط نقص حاد في الأدوية والمعدات. هناك، أخبرني الأطباء بالخبر الذي هدم عالمي وهو فقدان التوأم".
وأضافت منيرة وهي تمسح دموعها: "صرخت حينها كأن قلبي ينزف. شعرت أنني فقدت جزءا مني، حلما عشته طوال حياتي. بكيت لساعات طويلة، حتى جفت دموعي، ولم يتبقَّ لي سوى الألم".
اليوم، تعيش منيرة في خيمة داخل مركز إيواء للنازحين في منطقة مواصي خان يونس جنوب قطاع غزة في حياة قاسية يحيط بها البرد، ولكن أكثر ما يؤلمها هو الفراغ الذي تركه توأمها في قلبها.
تضيف: "كل ليلة أضع يدي على بطني وأتخيلهما. كنت أرى مستقبلهما، وأسمع ضحكاتهما. الآن، لم يتبقَّ سوى الصمت".
وهناك تسع عيادات في قطاع غزة تقوم بإجراء عمليات التلقيح الصناعي، وتقوم هذه المراكز بإرسال الأجنة المخصبة إلى مركز البسمة للإخصاب، إلا أن الغارة الإسرائيلية على المركز تسببت في تدمير جميع العينات والبويضات المجمدة.
قذيفة واحدة هدمت آلاف الأحلام
يقول مدير معمل الأجنة في مركز البسمة، د. محمد عجور: إن الغارات الإسرائيلية التي استهدفت المركز "دمرت 4 آلاف نطفة ملقحة وألف عينة من الحيوانات المنوية والبويضات المجمدة، مما قضى على آمال آلاف الأزواج الذين كانوا يحلمون بأن يصبح لديهم أطفال".
وأوضح عجور أن مركز البسمة كان يعد البنك الرئيس لثمان مراكز أخرى للإخصاب في قطاع غزة لتجميد النطف والبويضات غير المخصبة في قطاع غزة، مشيرا إلى أن المركز كان يحتفظ بنحو 90% من العينات المجمدة في ظروف دقيقة تتطلب درجة حرارة تصل إلى 196 درجة تحت الصفر، وتخزن في خزانات تحتوي على النيتروجين السائل لضمان استقرارها.
وأضاف: "كانت هذه العينات تمثل آخر أمل لكثير من الأزواج، بعضهم انتظر أكثر من 20 عاما للحصول على طفل، لكن قذيفة واحدة بددت هذا الحلم وأغلقت باب الأمل أمامهم".
وأشار عجور إلى أن تفجير خزانات النيتروجين السائل تسبب في تبخره بسرعة، ما أدى إلى فقدان العينات بشكل نهائي. وتابع: "هذا الدمار ليس مجرد خسارة مادية، بل يمثل كارثة إنسانية لأزواج كانوا قريبين جدا من تحقيق حلم الإنجاب".
وتحدث عجور عن التكلفة الباهظة للعلاج، حيث تبلغ تكلفة البرنامج الواحد للإخصاب حوالي 700-750 دولار، وقال: "يضطر الأزواج لبيع أغلى ما يملكون من أجل الحصول على فرصة للإنجاب عبر التلقيح الصناعي".
وأكد أن استهداف مراكز الإخصاب يمثل "جزء من استراتيجية إسرائيلية لقطع النسل الفلسطيني، وهي جريمة ترقى إلى الإبادة الجماعية بحق الشعب الفلسطيني".
جريمة حرب
ويرى صلاح عبد العاطي، مدير عام الهيئة الدولية لدعم حقوق الشعب الفلسطيني (حشد)، أن استهداف مراكز الإخصاب وحفظ الأجنة يمثل جريمة حرب بموجب المواثيق الدولية.
ويوضح عبد العاطي أن هذا الفعل يشكل انتهاكا للحق في الإنجاب وحماية الحياة، حيث أن تدمير هذه المراكز يمس بشكل مباشر حقوق الأفراد والأسر في تكوين عائلة، وهو حق معترف به دوليًا ومكرس في العديد من الاتفاقيات الدولية.
وأشار عبد العاطي إلى أن المادة 23 من العهد الدولي الخاص بالحقوق المدنية والسياسية لعام 1966 تنص على أن "الأسرة هي الوحدة الطبيعية والأساسية في المجتمع، ولها الحق في التمتع بحماية المجتمع والدولة"، مؤكدًا أن هذا الحق يشمل الحرية في تكوين أسرة والإنجاب.
كما لفت إلى المادة السابعة من اتفاقية حقوق الطفل لعام 1989، التي تؤكد حق الطفل في الولادة ومعرفة والديه والحصول على رعايتهما.
وأضاف عبد العاطي أن استهداف هذه المراكز دون ضرورة عسكرية يشكل انتهاكًا لمبادئ القانون الدولي الإنساني، الذي يحظر استهداف الممتلكات المدنية، مؤكدا أن مثل هذه الأفعال، إذا ارتُكبت عمدًا، يمكن أن تُصنف كجرائم حرب بموجب نظام روما الأساسي للمحكمة الجنائية الدولية.