لقمة العيش تخدش وجه "الطفولة" بغزة "لا وقت للعب.. الرزق لمن يتبعه"!

الاطفال في غزة
الاطفال في غزة

غزة/ البوابة 24- رشا أبو جلال:

لم يكن بهاء حوسو، ابن الأربعة عشر عامًا، يُدرك أن استشهاد والده في قصفٍ إسرائيليٍ استهدف مدينة غزة في شباط/ فبراير 2024م، سيقلب حياته رأسًا على عقب، ويأخذه بعيدًا عن مقاعد الدراسة التي لطالما تفوق فيها، ليردي حلمه قتيلًا على مفترق طرق.

يخرج بهاء في صبيحة كل يوم، فيبيع المناديل الورقية وبعض الحلوى للمارة، ليؤمّن قوت أسرته. يختار مكانه بعنايةٍ بين ركام البيوت الممتدة على مرمى البصر، ويقف عند الناصية ثم ينادي الرزق بصوت وجعه، بعد أن فرضت عليه الحرب دورًا لم يختره، وأثقلت أكتافه بمسؤوليات تفوق عمره.

بالنسبة للفاقدين آباءهم من أطفال غزة، لم يعد التعليم أولويةً إلا لدى من رحم الله. لقد صارت الحاجة إلى تأمين الطعام والملبس والمأوى أكثر إلحاحًا، ولو كان ذلك عبر مهن شاقة وخطرة، مثل العمل باليومية في إزالة الركام من البيوت المدمرة، أو البيع في الشوارع، وسط بيئة قاسية تهدد طفولتهم وأحلامهم.

"في ظل هذا الواقع، يجد الطفل نفسه يقفز فجأة إلى دائرة الكبار، يتحمل عبء عائلته، بينما يغض الطرف عن احتياجاته الخاصة" يقول بهاء لـ"البوابة 24"، مردفًا بحسرة: "لم يعد هناك وقت للعب، لقد صارت الكرة في الشارع حلمًا بعيد المنال، فالرزق لا يأتي إلا لمن يذهب إليه".

"المسؤولية لا تنتظر"

مع مرور الوقت، أدرك بهاء أن الحياة لم تعد كما كانت. مدرسته التي كان يحبها تعرضت للتدمير خلال الحرب، ولم يعد هناك أي نظام تعليمي يتيح له العودة إلى مقاعد الدراسة. يخبرنا: "كنت أحب المدرسة جدًا، كنت الأول على صفي، وكان أبي يشجعني دائمًا على الدراسة، كان يقول لي: أريدك أن تصبح طبيبًا، لكن الآن.. لم يعد هناك من يعيلنا، كان عليَّ أن أفعل شيئًا".

أول يوم له في الشارع كان الأصعب، لم يعرف كيف يعرض بضاعته، وتجنب النظر في أعين المارة خشية أن يصادف أحد أصدقائه من أيام المدرسة. يستدرك: "لكن الحاجة كانت أقوى من أي شعور. سرعان ما اعتدت الأمر، وصرت أستيقظ مبكرًا لشراء البضاعة، ثم أقف في الشمس طوال النهار، لأعود ببضعة شواقل تكفي لسد رمق العائلة".

والدته، التي لم تتوقف عن البكاء في الأيام الأولى بعد رحيل زوجها، وجدت في دموع بهاء الصامتة جرحًا لا يقل عمقًا عن جرحها. لم تكن تريد لطفلها أن يتحمل مسؤولية تفوق سنّه، لكنها لم تجد خيارًا آخر.

تقول: "حاولتُ إقناعه بالبقاء بعيدًا عن الشارع وعن العمل، والاهتمام في حفظ دروسه، لكنه قال لي: (كيف سأعود للدراسة وأنتِ لا تملكين حتى ثمن الخبز؟ كيف سنوفر الطعام لأشقائي الصغار) بكيتُ حينها.. كيف لطفل في عمره أن يتحدث بهذه الطريقة؟".

ولكي تُخفف من عبء المسؤولية عنه، استعارت ماكينة خياطة من جارتها، وبدأت بخياطة بعض الملابس وبيعها. تروي بابتسامة حزينة: "أحاول أن أساعده ولو قليلًا؛ ليشعر أن هناك من يسانده.. لا أريده أن يكبر فجأة".

من بطلة كاراتيه لمعيلة أسرة

"مروة الحلو"، ابنة الثلاثة عشر عامًا، كانت أيضًا تمتلك طموحًا بأن تصبح بطلة حقيقية في الكاراتيه، على مستوى العالم.

قبل اندلاع الحرب في أكتوبر 2023م، حصلت مروة على الحزام الأسود من أحد مراكز تدريب الكاراتيه في غزة، وكانت تحلم بتمثيل بلدها في البطولات الدولية. كانت تشعر بالقوة والثقة وهي تؤدي حركاتها بمهارة، وكان والدها أول الداعمين لها، يحضر تدريباتها، ويشجعها، ويعدها بأنه سيحتفل معها عندما تشارك في أول بطولة خارجية.

لكن في يوم من أيام مايو 2024م، سُلب منها كل شيء. استهدفت غارة جوية إسرائيلية تجمعًا للمواطنين في مدينة دير البلح حيث نزحت أسرتها من مدينة غزة. تسببت هذه الغارة باستشهاد والدها وإصابة والدتها التي أصبحت مع مرور الوقت غير قادرة على الحركة.

في ذلك اليوم، تحولت حياة مروة إلى شيءٍ لم تكن تتخيله حتى في أسوأ كوابيسها. لم تعد تلك الفتاة، البطلة التي ترتدي زي الكاراتيه الأبيض، ولم تعد تخوض نزالات في صالة التدريب، بل أصبحت فتاة تحمل مسؤولية تفوق عمرها.

بعد 15 شهرًا من النزوح، قررت الأسرة العودة إلى منزلها المدمر في غزة، فلم يكن لديها خيار آخر. لكن المنزل لم يعد كما كان، والجدران التي كانت تزينها ميداليات مروة وشهاداتها أصبحت مجرد أنقاض، ولم تعد مروة نفسها كما كانت.

"قبل الحرب، كنت أعيش حلمي، كان لديّ مدرب، وزملاء، وأحلام كبيرة، لكن الآن.. كل شيء تبدد. لا أفكر في الكاراتيه، ولا في البطولات، ولا في أي شيء آخر سوى أن أجد ما نأكله يوميًا" تقول لـ"البوابة 24".

تحت رعاية خالها، بدأت مروة تعمل بائعة للبقوليات والمواد التموينية، تقف أمام متجر صغير تعرض بضاعتها، تتعلم كيف تزن العدس والحمص، وتعدّ الحسابات البسيطة.

تضيف مروة: "حين أنظر إلى يديّ، لا أرى قبضة مقاتلة، بل يدًا تحصي ما تبقى لي من مال.. كنت أظن أنني قوية، لكن الحرب علمتني أن القوة الحقيقية ليست في القتال على بساط الكاراتيه، بل في القدرة على البقاء".

تعمل مروة لساعات طويلة، وتعود إلى المنزل محمّلة بما تحتاجه العائلة، تساعد والدتها المصابة، وترعى أشقاءها الأصغر منها. لم يعد لديها وقت لتفكر فيما ضاع منها، فقد أصبحت الحرب هي واقعها الوحيد.

وتكمل حديثها: "لا أعرف إن كنت سأعود يومًا لممارسة رياضة الكاراتيه، لا أعرف إن كنت سأُمثل بلدي في بطولة كما كنت أحلم.. لكن ما أعرفه الآن هو أنني يجب أن أستمر، لأن عائلتي بحاجة إليّ.. وهذا وحده يكفي".

من حلم "أوروبا" لكنس الركام!

قبل الحرب، كان مؤمن سليم، ابن السبعة عشر عامًا، يجلس في غرفته الصغيرة داخل منزله في حي الرمال بمدينة غزة، يراجع دروسه في اللغة الإنجليزية، ويسجل ملاحظاته، ويتمرن على أسئلة اختبار "التوفل".

كان يحلم بأن يحصل على الشهادة التي ستفتح له أبواب الجامعات الأوروبية، حيث كان يأمل استكمال دراسته هناك، بعيدًا عن حصار غزة وضيق الحياة فيها. كان والده يشجعه دائمًا، يُحضر له الكتب، ويدفع رسوم الدورات التي كان يأخذها عبر الإنترنت، ويقول له: "أريد أن أراك تنجح، أن تعيش حياة أفضل من هذه"، لكن مع اندلاع الحرب، انتهى كل شيء.

غارة جوية استهدفت حيهم السكني في كانون الأول/ ديسمبر 2023م، استشهد والده، الرجل الذي كان يحمل عنه وعن العائلة كلها أعباء الحياة. وجد مؤمن نفسه فجأةً المعيل الوحيد لأسرته المكونة من والدته وأشقائه الخمسة، أصغرهم لم يكمل عامه الرابع بعد.

يقول مؤمن لـ"البوابة 24": "في ذلك اليوم، شعرت أنني لم أعد طفلًا.. كنت أدرس لأغيّر حياتي، لكنني الآن أعمل فقط من أجل البقاء".

توقفت دروس الإنجليزية، واختفت كتبه بين أنقاض المنزل، ولم يعد هناك إنترنت ليتابع محاضراته. بدلًا من ذلك، صار يخرج كل صباح إلى شوارع المدينة بحثًا عن أي فرصة عمل.

بدأ مؤمن يعمل في تنظيف الشقق من الركام، يدخل البيوت المدمرة، يزيل الحجارة المتناثرة، يحمل الأثاث المحطم، ويكنس الغبار الذي غطّى كل شيء. كل ما يجنيه بالكاد يكفي لشراء الطعام لعائلته.

ويضيف: "لم أكن أتخيل أنني سأعيش بهذه الطريقة.. كنت أريد السفر، كنت أريد الدراسة، لكنني الآن أجمع الركام من البيوت بدلًا من أن أجمع الشهادات".

لم يكن العمل سهلًا، فجسده لم يكن معتادًا على المجهود الشاق، ويداه اللتان كانتا تمسكان القلم وجهاز الحاسوب، صارتا تحملان الحجارة والركام. لكنه لم يتوقف، فكل مساء، يعود إلى المنزل محمّلًا ببعض الطعام، ينظر إلى إخوته الذين ينتظرونه، ويشعر أن الاستسلام ليس خيارًا.

رغم قسوة الواقع، لا يزال مؤمن يتمسك بجزء من حلمه. في بعض الليالي، بعد أن ينام الجميع، يجلس في ركن صغير من المنزل المدمر، يمسك بهاتفه المتصدع، ويعيد قراءة بعض الدروس القديمة التي تمكن من حفظها قبل الحرب.

"لا أعرف متى، لكنني سأحاول.. قد يكون الأمر صعبًا، لكنني لن أسمح للحرب بأن تأخذ كل شيء مني"، يتابع مؤمن.

ربما تأخر موعد السفر، وربما لم يعد اختبار "التوفل" على قائمة أولوياته الآن، لكن مؤمن لم يفقد إيمانه بأن المستقبل قد يحمل له فرصة أخرى.. فرصة لن يتخلى عنها أبدًا عندما تأتي.

ضغوط نفسية واجتماعية

ويؤكد الخبير النفسي والاجتماعي إياد الشوربجي أن الأطفال الذين فقدوا معيلهم الأساسي في غزة يواجهون تحديات نفسية واجتماعية كبيرة، حيث يضطرون إلى تحمل مسؤوليات تفوق أعمارهم، ما يؤثر على حياتهم بشكل عميق ويهدد مستقبلهم.

وأوضح الشوربجي لـ"البوابة 24" أن هؤلاء الأطفال يعيشون تحت ضغط نفسي شديد بسبب تحملهم أعباء لا تتناسب مع أعمارهم، مما يؤدي إلى شعورهم المستمر بالقلق والتوتر، مشيرًا إلى أن الكثير منهم يعانون من فقدان الثقة بالنفس، خاصةً إذا لم يتمكنوا من تلبية احتياجات أسرهم، ما يجعلهم يشعرون بالإحباط والعجز.

وأضاف: "اضطرار الأطفال للعمل يؤدي إلى ارتفاع مستويات الأمية، حيث يضطر العديد منهم إلى ترك مقاعد الدراسة للتركيز على توفير لقمة العيش لأسرهم، "أما الذين يحاولون التوفيق بين العمل والتعليم، فإنهم يواجهون تراجعًا في تحصيلهم العلمي بسبب الإرهاق وقلة التركيز".

وشدد الشوربجي على أن هذه الظاهرة تحرم الأطفال من فرصهم المستقبلية وتحد من إمكاناتهم في بناء حياة أفضل.

وأشار إلى أن هذه المشكلة لا تقتصر على الجوانب النفسية والتعليمية فحسب، بل تمتد إلى التأثير على الحياة الاجتماعية للأطفال العاملين، حيث يشعرون بالعزلة عن أقرانهم ويفقدون التواصل الطبيعي مع مجتمعهم.

ولمواجهة هذه الظاهرة المتفاقمة، أكد الشوربجي على ضرورة اتخاذ إجراءات عاجلة لحماية هؤلاء الأطفال، تتضمن توفير دعم مالي للأسر المتضررة لمنع اضطرار الأطفال إلى ترك التعليم والانخراط في سوق العمل.

ودعا لإطلاق برامج دعم نفسي واجتماعي لمساعدتهم على مواجهة الضغوط والصدمات النفسية، وضمان استمرار تعليمهم عبر منح دراسية وبرامج تعليمية مرنة تناسب ظروفهم الصعبة.

البوابة 24