تحت النار بغزة.. محاولاتٌ لـ"النجاة" في تُربة "اصّيص" صغير!

صورة توضيحية
صورة توضيحية

غزة/ البوابة 24- حلا أبو عيشة:

تستمر الشابة لبنى إسماعيل، من مدينة دير البلح، وسط قطاع غزة، بتخصيص بضعة سنتيمترات من زجاجة المياه اليومية الخاصة بها، لسقاية التربة التي غرست فيها منذ مدة بذور الطماطم والباذنجان والفلفل الأخضر.

حصلت الشابة على تلك البذور خلال فترة توفر الخضار في السوق، بعد إعلان اتفاق وقف إطلاق النار -الذي اخترقته "إسرائيل" قبل عدة أسابيع- بغزة، لكن عرقًا أخضرًا لم ينبت منها حتى اللحظة!
للمرة الأولى، تجد لبنى (21 عامًا) نفسها في مواجهةٍ مع هذا السياق من سياقات الحياة -كما تصف- فهي ليست ابنة أسرة تعمل بالزراعة، وأهلها لا يملكون أرضًا أصلًا، ولا تعرف أي معلومات عن الموضوع، إلا ما قرأته حديثًا عبر الإنترنت، "لكن الظرف الصعب الذي نعيشه اليوم، كان كفيلًا بجعلنا نجرب كل شيء يمكن أن يساعدنا في البقاء على قيد الحياة" تقول لـ "البوابة 24".

وبرغم أن الشتلات لم تر النور بعد، إلا أن الشابة تراقبها بشكلٍ يومي، وتبني أحلامًا كبيرة على أول إنتاجها، كصناعة "قلاية بندورة وباذنجان مقلي مثلًا"، في حين تحاول جدتها إعادتها إلى أرض الواقع، وإخبارها بأن "أول ثمرة" بحاجة إلى وقتٍ طويلٍ بعد، "هذا في حال نجحت عملية الزراعة أصلًا، وتناسبت البذور مع طبيعة التربة ونوعية الماء وكميتها".

وتحكي والدة لبني: "لم يكن لدينا سابقًا أي اهتمام بموضوع الزراعة، لقد كنا نعتمد على خضار السوق قبل الحرب. حتى الريحان والنعناع والأعشاب الخضراء، كانت موجودة بكثرة في بيت حماتي قبل أن يقصف ويصبح ركامًا"، مستدركةً بانفعال: "نحن اليوم مضطرون للتجربة. لو استطعتُ أن أزرع كل أنواع الخضار لفعلت، ولو عاد بي الزمن لتعلمت كل ما يتعلق بالعمل في الأرض، بعد ما نعيشه من مجاعة".

وتعاهد السيدة نفسها بصوتٍ يحترق قهرًا: "لو كتب الله لنا النجاة من هذه المقتلة، سأجعل الأمن الغذائي في سلم أولوياتي.. سأعمل على زراعة الخضار المنزلية.. سأتعلم تجفيف كل أنواعها، وتخزينها بالشكل المطلوب. ما عشناه ونعيشه حتى اللحظة قلب حياتنا وتفكيرنا كليًا، وعلّمنا درسًا للعمر كله: كلنا يجب أن نعود إلى الأرض".
ولجأ عدد كبير من أهالي قطاع غزة، لزراعة بعض الأشتال -كنوعٍ من التجربة- خلال الإبادة، بعد ما قاسوه من مرارة الجوع والحرمان والحصار، واللجوء لبدائل غير آدمية لسد الجوع كخبز العلف، وأوراق أشجار الزينة.

بدأ الناس بمحاولاتٍ -ليست بالضرورة عن خبرة، ولا مشروطة بالنجاح- بزراعة أُصص صغيرة، بنباتات موسمية قريبة الإنبات، كالفلفل الأخضر، والسلق، والسبانخ، والبندورة.
ويا للأسف، فإن بعضهم كان يترك كل تعبه، في أوج نجاحه، ويترك الجمل بما حمل، بعد وصول أول أمر إخلاء للمكان الذي يقيمون فيه.
لسد الرمق!

بهية نسمان أيضًا، لم تضع يدها يومًا في التراب، رغم أنها تعيش في أطراف مخيم جباليا، شمالي قطاع غزة، حيث تملك عائلتها قطعة أرضٍ صغيرة في فناء البيت الخلفي.

تخبرنا: "عندما خيمت المجاعة القاسية على شمال القطاع، فكرت في أن الحل يكمن بالتجربة. انعدمت أمامنا الخيارات، وصار لزامًا أن نفكر بطريقة مجدية، توفر لعائلاتنا الغذاء قدر المستطاع، ولو بعد حين".

وتعترف: "معرفتي بالزراعة كانت بسيطة جدًا، لكنني فخورة بالتجربة. لقد نبت الريحان والنعناع قبل وقت، وشتلة باذنجان أعطتني حبة واحدة، ثم ماتت! ولن أستطيع أن أصف فرحتنا بها يومذاك".

وكثيرون، عاشوا تجربة الزراعة للمرة الأولى، تمامًا كما بهية (34 عامًا)، فعبيدة الأشرم فعلها أيضًا.
يقول الرجل (47 عامًا) لـ"البوابة 24": "على سطح منزلي المدمر جزئيًا في حي النصر، نقلت بعض التربة من أرض مجاورة، واشتريت تربة وسمادًا، كانت أسعارها في السوق خيالية (حوالي 600 دولار)، لكنني دفعتها كي أضمن نجاح الشتلات، وبدأت بزراعة البذور وفق تعليمات أصدقاء لديهم خبرة".

تعالى الأشرم على تعبه في متابعة الأُصص تحت النار مرارًا، من أجل هدفٍ أهم من أي خوف. "أن تأكل عائلتي الخضار في زمن الشح، وألا أفقد أحدهم وهو يشتهي حبة بندورة مثلًا" يضيف.
ولم تتوقف العراقيل التي واجهها عند توفير التربة والبذور والسماد وحسب، بل امتدت لفكرة أنه أصلًا "يفتقر للخبرة"، يعلق: "كل شي كان يبدو أصعب يومًا بعد يوم، لكنني لجأت إلى الإنترنت، وبعدها تغيرت حياتي.. لقد شغلتني الزراعة عن مخاوف الحرب والفقد لساعات طويلة من النهار".
بعد فترة طويلة من الجهد والمعاناة، نبتت في قوارير الرجل (وهو أب لستة أبناء) السلق والسبانخ، والرجلة، وصنعت منها زوجته الفطائر، "في الوقت الذي كان السوق فيه يعرض الخضار شبه المتعفنة، وبأسعار لا يمكن تصديقها".

يجد الأشرم صعوبةً كبيرةً اليوم، في متابعة العناية بالمزروعات، نتيجة فقدان أهم عنصر من عناصر العملية الزراعية، وهو "الماء"، فهو بالكاد يستطيع الحصول على ماء يكفي لسد احتياجات أبنائه من الشرب، وحاجة المنزل من الغسل والتنظيف، لا سيما بعد قصف الاحتلال العديد من محطات التحلية في كافة مناطق القطاع، وتدمير الآبار، وقطع إمدادات المياه عن القطاع.

يعقب الأشرم: "لا أعرف في أية لحظة يمكن أن أترك بيتي مجددًا. في كل نزوح أترك كل شيء خلفي، ولا أعلم ما سيحل بمزروعاتي، لكن الحاجة للغذاء هي فقط التي تدفعني للاستمرار في هذه المهمة"، مردفًا بحرقة: "الزراعة اليوم اضطرار وليست خيار أو رفاهية (..) نحن اليوم نكابد ظرفًا غير آدمي، فحتى المعلبات صارت شحيحة".
"أساس الأمان والحياة"
بعد اندلاع الحرب، ونزوح الكثير من المزارعين من الشمال إلى جنوبي القطاع، بدأت أزمة توفير الغذاء، لا سيما بعد تجريف مساحات واسعة من الأراضي الزراعية خلال العمليات العسكرية الممتدة، بالإضافة إلى تدمير المحال المختصة ببيع مستلزمات الزراعة.

ويقول ممثل الجمعية العربية لحماية الطبيعة في منطقة شمال قطاع غزة، عن تجربة الزراعة المنزلية خلال الإبادة: "تجربة ممتازة، لكن معظم المواطنين لا يعرفون طرق التعامل الصحيحة مع الأشتال، ولا حتى أنواع الفيتامينات والأسمدة التي تحتاجها، والمبيدات المطلوبة لإنقاذها من الموت"، مشيرًا إلى أنه أنصت لتجارب كثيرين، تحدثوا عن فشل ذريع، وتحطم للآمال نتيجة قلة الخبرة، وعدم تهيئة الظروف المناسبة للبذور المطلوب إنباتها.

ويقطن عابد في مخيم جباليا، ويؤكد أنه كان يزرع الكثير من الأشتال المثمرة في بيته قبل الإبادة، وقبل أن يتحول إلى دمار عارم، ويصاب بداخله عدد من أفراد أسرته.

ويتابع: "بعد ما مر به أهالي القطاع من مجاعة صعبة، أظن أنهم أدركوا أن الزراعة أساس الأمان والحياة، ولهذا سيتمسكون بها كقيمة حتى آخر العمر"، مشددًا على أن أهم درس تلقاه الأهالي وحتى المزارعين خلال الإبادة كان "تخزين البذور"، فهي الأمان الوحيد غذائيًا لأي شعب، "والحفاظ عليها كالحفاظ على الروح تمامًا".

ويكمل: "إذا كتب الله لنا النجاة من هذه الإبادة، لا بد من أن نسعى لتعميق الوعي الزراعي والبيئي لدى المواطنين. داخل كل بيت أو مطبخ، يجب أن تحتفظ ربات البيوت بعلب تضع فيها بذور الأعشاب العطرية والعلاجية: البقدونس والجرجير والسلق والسبانخ، وأن يستثمر الناس المساحة الصغيرة أمام بيوتهم لزراعة الأشجار المثمرة، ورعايتها بعد سؤال أهل الخبرة، فوجودها حل كبير لأي أزمة غذائية قد تطال أي مواطن فلسطيني فيما بعد".

وبحسب مركز الأمم المتحدة للأقمار الصناعية، فقد تراجعت صحة وكثافة الأراضي الصالحة للزراعة بنسبة 18% في قطاع غزة بتاريخ 11 ديسمبر/ كانون الأول 2023م، مقارنة بمتوسط السنوات الست الماضية، في حين أن من المؤكد أن النسبة ارتفعت أضعافًا في ظل استمرار الإبادة عامًا وأكثر بعد نشر هذه المعطيات في مطلع يناير 2024م.

وبلغت مساحة الأراضي الزراعية المدمرة في القطاع -بنفس التاريخ المذكور- نحو 34 كيلومترًا مربعًا، من إجمالي الأراضي الزراعية الذي تقدر مساحتها ب 185 كيلو مترًا مربعًا.

ووفقًا للجهاز المركزي للإحصاء الفلسطيني، ومقره الضفة الغربية، فإن حوالي 20% الأراضي الزراعية في قطاع غزة دُمرت بحلول منتصف ديسمبر/تشرين الأول 2023م.

وقال المرصد الأورومتوسطي لحقوق الإنسان في يونيو/ حزيران 2024م: "إن الاحتلال الإسرائيلي، أخرج أكثر من 75% من مساحة الأراضي الزراعية عن الخدمة في قطاع غزة، إما بعزلها تمهيدًا لضمها للمنطقة العازلة على نحوٍ غير قانوني، أو بتدميرها وتجريفها".

البوابة 24