غزة/ البوابة 24- رشا أبو جلال:
في ليلةٍ مثقلةٍ بالرعب فجر السابع من نيسان/ إبريل الجاري، وبينما كانت عدسات الصحافيين لا تزال مفتوحة على جراح غزة، دوّت ضربة صاروخية دقيقة استهدفت خيمةً نُصبت قرب مستشفى "ناصر" في مدينة خان يونس جنوبي القطاع.
لم تكن هذه الخيمة مجرد مأوى مؤقت، بل كانت نقطة تجمع ومبيت وعمل للصحافيين الذين اختاروا أن يكونوا شهودًا على المجازر، لا مجرد ناقلين للأخبار.
الضربة جاءت من طائرة إسرائيلية، حلّقت على ارتفاع منخفض ثم أطلقت صاروخها نحو الخيمة مباشرة، مخترقة جسد الحقيقة والحياد، لتشعل النيران في أجساد من حملوا الكاميرا والقلم.
التقطت الكاميرات لحظة الانفجار، وظهر فيها الصحافي أحمد منصور، مراسل وكالة "فلسطين اليوم"، وهو يحترق حيّاً أثناء دوامه الليلي. حاول الفرار، لكن النيران سبقت خطاه، وابتلعته كما تبتلع العتمة بقايا الضوء.
زميله الصحافي حلمي الفقعاوي كان إلى جواره، ولم تسعفه الثواني القليلة لينجو، فقد التهمت النيران جسده كاملاً، واستُشهد على الفور. أما الشاب يوسف الخزندار، فكان أيضاً في محيط الخيمة، وسقط شهيداً معهم.
أما المصابون، فحملت قائمة أسمائهم ثقلاً موجعًا، إذ أُصيب الصحافيون حسن اصليح، ومحمد فايق، وأحمد الآغا، وعبد الله العطار، وإيهاب البرديني، ومحمود عوض بجراح متفاوتة الخطورة، نقلوا على إثرها إلى مستشفى ناصر، بعضهم في حالات حرجة. ومع كل قطرة دم نزفت، كان يتسرّب جزء من ضوء الكلمة.
شهادات من كانوا في المكان أكدت أن الاستهداف كان متعمداً، فالخيمة كانت معروفة للجميع كمقر لصحافيين منذ أسابيع، وتُستخدم للنوم والعمل والتوثيق. وكان الصحافيون قد وضعوا شاراتهم التعريفية بوضوح، وأعلام الصحافة كانت ترفرف فوق المكان.
وقال الصحفي الفلسطيني عبد الله يونس الذي يعمل لصحيفة "الأخبار" اللبنانية: "إن الاحتلال الإسرائيلي يمارس سياسة ممنهجة لاستهداف الصحفيين في قطاع غزة، ليس فقط بهدف إسكاتهم جسديًا، بل لاغتيال الحقيقة وإنهاء الرواية الفلسطينية التي تفضح جرائمه أمام العالم".
أضاف يونس خلال حديثه مع "البوابة 24": "إسرائيل لا تقتل الصحافيين صدفة، بل تقتل الكاميرا والقلم والشهادة. تريد أن تقتل ما نراه وننقله من وجع ومعاناة، حتى تبقى صورتها الدموية مخفية عن العالم".
وأشار إلى أن التحريض الإسرائيلي ضد الصحفيين الفلسطينيين بلغ مستويات خطيرة، قائلًا: "هناك تصاعد واضح في التحريض من قبل الإعلام الإسرائيلي ومسؤوليه، حيث يُوسم الصحفيون الفلسطينيون بالتحزب والانتماء للفصائل، في محاولة لتبرير استهدافهم واغتيالهم الميداني".
وأضاف: "مجرد نشر صورة صحفي مع أحد قادة المقاومة (في إشارة إلى صورة جمعت حسن اصليح مع رئيس حركة حماس بغزة الشهيد يحيى السنوار) بات يُستخدم كذريعة للقتل، وهذا لا يحدث في أي مكان في العالم إلا في فلسطين".
وأكد يونس أن هذه السياسة تهدف لإخراس الأصوات الحرة ومنع نقل الحقيقة، مشددًا على أن الصحفيين الفلسطينيين رغم كل المخاطر سيواصلون أداء واجبهم المهني، لأن "حماية الحقيقة باتت معركة يومية لا تقل أهمية عن أي جبهة أخرى".
تصاعد التحريض الإسرائيلي
وكشف مركز صدى سوشال في دراسة حديثة نشرها في 27 مارس عن تصاعد حاد في موجة التحريض الرقمي الإسرائيلي ضد الصحفيين الفلسطينيين في قطاع غزة، مؤكدًا أن هذا التحريض يشكّل جزءًا من استراتيجية ممنهجة تهدف إلى إسكات الصوت الإعلامي الفلسطيني ضمن ما وصفته الدراسة بـ"استراتيجية الإبادة الإعلامية".
وبحسب الدراسة التي أعدها الباحث إبراهيم الحاج، فإن 80% من الصحفيين الميدانيين أفادوا بتعرّضهم لاستهداف مباشر خلال أداء مهامهم الصحفية، بينما أكد 87.5% أن هذه الاستهدافات وقعت أثناء التغطية الميدانية، في دلالة واضحة على تعمّد استهدافهم خلال نقل الأحداث.
ولم تقتصر التهديدات على الميدان، إذ أفاد 25% من الصحفيين بأنهم تعرّضوا للاستهداف داخل منازلهم، فيما وقعت 18.8% من الحالات في مقارّ المؤسسات الإعلامية، ما يعكس اختراقًا خطيرًا لحياتهم الشخصية والمهنية.
التهديد بالقتل كان الشكل الأبرز من هذه الانتهاكات، حيث أشار 68.8% من الصحفيين إلى تلقّيهم تهديدات صريحة بالقتل، بينما تعرّض 50% لتهديدات بالملاحقة والاعتقال والتفجير، و25% للتهديد المباشر بالقصف.
وعن وسائل التهديد، جاءت المكالمات الهاتفية في الصدارة بنسبة 26.3%، تليها التهديدات عبر وسائل التواصل الاجتماعي والرسائل النصية. كما أكد 55% من الصحفيين أنهم كانوا هدفًا لحملات تحريض رقمي ممنهجة، بينما قال 70% إنهم تعرضوا لحملات تشويه ونشر أخبار مضللة، وأفاد 65% بتلقّي تهديدات بالقتل عبر حسابات إسرائيلية.
الدراسة خلصت إلى أن هذه البيئة العدائية أثّرت مباشرة على قدرة الصحفيين على أداء مهامهم، إذ ذكر 68.8% أن الاستهدافات المتكررة أضعفت قدرتهم على التغطية، فيما تعرّضت 90% من المؤسسات الإعلامية التي يعملون بها للاستهداف أو التهديد.
ارتفاع أعداد الشهداء
وأعلن المكتب الإعلامي الحكومي في غزة عن ارتفاع عدد الشهداء من الصحفيين الفلسطينيين إلى 211 شهيدًا منذ بداية العدوان الإسرائيلي على قطاع غزة في 7 أكتوبر 2023، وذلك عقب الجريمة المروعة التي ارتكبها الاحتلال، بقصف خيمة للصحفيين في مستشفى ناصر.
وقال إسماعيل الثوابتة، مدير عام المكتب الإعلامي الحكومي لـ"بوابة 24": "إن ما جرى بحق الزملاء الصحفيين في خان يونس جريمة مكتملة الأركان، يعكس إصرار الاحتلال على إسكات الكلمة الحرة واستهداف شهود الحقيقة في الميدان".
وأضاف: "نحن أمام عملية إعدام ميدانية واضحة، حيث قصفت الطائرات خيمة الصحفيين التي كانت معلّمة بعلامات صحفية واضحة قرب مستشفى ناصر، في انتهاك صارخ لكل المواثيق الدولية".
وأشار الثوابتة إلى أن "إقدام الاحتلال على ارتكاب هذه الجريمة يأتي ضمن سياق سياسة اغتيال الصحفيين التي اتبعها منذ اليوم الأول للعدوان"، مشيرًا إلى أن معظم الصحفيين الذين تم اغتيالهم كانوا يؤدون عملهم المهني في تغطية المجازر والانتهاكات، وبعضهم تم استهدافه في منزله أو أثناء نومه.
وأضاف: "نُحمّل الاحتلال الإسرائيلي المسؤولية الكاملة عن استهداف الصحفيين، كما نُحمّل معها الإدارة الأمريكية والدول الداعمة للعدوان، وخاصة بريطانيا وألمانيا وفرنسا، التي توفر غطاءً سياسياً وعسكرياً لهذه الجرائم".
وطالب مدير المكتب الإعلامي بـ"تحرك دولي فوري وموقف واضح وشجاع لإدانة هذه المجازر، والضغط من أجل فتح تحقيقات دولية لمحاسبة قادة الاحتلال كمجرمي حرب".
خرق للقانون الدولي
وقال صلاح عبد العاطي، مدير عام الهيئة الدولية لدعم حقوق الشعب الفلسطيني "حشد" لـ"البوابة 24": "إن مواصلة قوات الاحتلال الإسرائيلي استهداف الصحفيين الفلسطينيين، كما حدث في قصف خيمة الصحفيين قرب مستشفى ناصر بخان يونس، يشكل "انتهاكًا صارخًا للقانون الدولي الإنساني، وجريمة مكتملة الأركان ترتقي إلى جريمة حرب".
وأوضح عبد العاطي أن دولة الاحتلال "تنتهك بشكل ممنهج اتفاقيات جنيف، وخاصة المادة 79 من البروتوكول الإضافي الأول، التي تنص على وجوب حماية الصحفيين المدنيين أثناء النزاعات المسلحة. كما تخرق المادة 19 من العهد الدولي الخاص بالحقوق المدنية والسياسية، والتي تضمن حرية الرأي والتعبير".
وأكد أن استهداف الصحفيين، سواء من خلال القصف المباشر أو عبر حملات التحريض الرقمي، يهدف إلى إسكات الحقيقة ومنع نقل المجازر اليومية بحق المدنيين، وهو ما يُعد جريمة مزدوجة بحق الصحفيين وحق الشعوب في المعرفة.
ودعا عبد العاطي إلى تحرك دولي عاجل، قائلًا: "المطلوب اليوم هو تشكيل لجنة تحقيق دولية مستقلة ومحايدة، وتفعيل اختصاص المحكمة الجنائية الدولية لمساءلة قادة الاحتلال كمجرمي حرب. الصمت الدولي شجّع إسرائيل على التمادي في جرائمها".