"فن البقاء"
د. إياد أبو الهنود
في ظل التطورات المتسارعة التي تشهدها القضية الفلسطينية، تتصدر المشهد مأساة حرب إبادة جماعية تستهدف الإنسان والحجر معًا، وتحرق الأخضر واليابس، في محاولة ممنهجة لتصفية القضية من جذورها، ورغم هذا الاستهداف الوجودي، يبرز في المقابل صمود الفلسطينيين وتجذرهم في أرضهم كصورة ملهمة للمقاومة والبقاء.
ومن هنا يثور التساؤل: هل يمكن للفلسطينيين إتقان "فن البقاء" في مواجهة مشروع الإبادة والنفي؟
"فن البقاء" ليس مجرد تعبير عابر، بل هو منظومة من المهارات والأساليب التي يستخدمها الإنسان لمواجهة ظروف استثنائية، سواء في البرية أو خلال الحروب أو في خضم الأزمات الاقتصادية والاجتماعية؛ وفي "الحالة الفلسطينية"، يتجاوز هذا المفهوم نطاق النجاة الفردية ليصبح ضرورة جماعية، يظهر ذلك في القدرة على الاستمرار بالحياة داخل بيئة خُنقت فيها كل مقومات العيش، وتحولت بفعل الحرب والعدوان المستمر إلى فضاء طارد للسكان.
إن الحرب الإسرائيلية ليست مجرد آلة قتل، بل هي مشروع متكامل لتدمير الحياة وصناعة واقع غير قابل للعيش، حيث هدفها الأبعد دفع الفلسطينيين نحو الرحيل القسري، فهي لا تقتصر على قتل المواطنين وتدمير البنية التحتية والبيوت، بل تمتد إلى فرض وقائع سياسية واقتصادية واجتماعية، تُستغل لاحقًا كأدوات ضغط في مفاوضات ما بعد الحرب، وخصوصًا في مراحل إعادة الإعمار ومحاولات استعادة الحياة.
وفي التاريخ عبرة، وفي الحاضر دلائل لا تقل بلاغة. فقد تعرض الفلسطينيون لنكبات متتالية على مدار تاريخهم، بدءًا من النكبة إلى النكسة، وصولًا إلى الحصار المستمر؛ وغزة، على وجه الخصوص، كانت وما زالت مسرحًا متكررًا لموجات من الدمار. ورغم ذلك، أثبت أهلها قدرة مدهشة على التكيف وإعادة البناء. واليوم، وعلى الرغم من ضراوة الحرب والعدوان الإسرائيلي الأخير، واستخدامه أسلحة محرمة دوليًا، وارتكابه جرائم موثقة بالصوت والصورة ترقى إلى مستوى جرائم حرب وجرائم ضد الإنسانية، لا يزال الفلسطينيون يبدعون في الصمود، ويتمسكون بأرضهم، ويراهنون على أن الزمن عابر لا محالة.
هنا، يصبح "فن البقاء" فعلًا واعيًا ومقاومة مستمرة، تختزل في طياتها معاني الحياة والكرامة، والارتباط العميق بالمكان، والإيمان بأن للظلم نهاية، وللشعوب قدرة على الاستمرار رغم كل شيء.
إن الحديث عن "فن البقاء" في "الحالة الفلسطينية" لا يقتصر على كونه رد فعل على واقع مأساوي، بل هو فعل مقاوم واعٍ، يتغلغل هذا الفن في تفاصيل الحياة اليومية للفلسطينيين، ويتخذ أشكالًا متعددة ومتداخلة تُمارس بشكل فردي وجماعي في البيت، في المدرسة، في المخيم، وفي الميدان، هذا الفن لا يُختزل في مجرد النجاة، بل يتجاوزها ليعبر عن قدرة شعب على تحويل الخراب إلى بناء، واليأس إلى أمل، والهشاشة إلى صلابة، إنه يمثل تحديًا مستمرًا للاحتلال الإسرائيلي من خلال البقاء في غزة، القدس، والضفة الغربية، بما يعكس قدرة الشعب الفلسطيني على أن يظل جزءًا لا يتجزأ من الأرض والهوية والنضال المستمر نحو الحرية والعدالة.