غزة/ البوابة 24- ملاك أبو عودة:
في قطاع غزة، خلفت الحرب آثارًا جسيمة وعميقة على النساء، إذ لم تسلم أجسادهن من تداعيات القصف العنيف الذي دمر منازلهن وحياتهن. لا يقتصر الألم على الخسائر المادية، بل يشمل خسائر جسدية ونفسية فادحة، حيث تعرّضت العديد من النساء لبتر أطرافهن، وفقدن أجنتهن، وأحبّاءهن، وسط ظروف إنسانية قاسية فرضتها الحرب. في ظل النزوح المتكرر، نقص الرعاية الطبية، وسوء التغذية، لم يكن للنساء الوقت الكافي للتعافي، بل وجدن أنفسهن أمام تحديات يومية تلقي بثقلها على أجسادهن وعقولهن.
تنوّعت الإصابات بين بتر في الأطراف وفقدان أجنّة وأسر، كما شهد القطاع حالات ولادة تزامنت مع الإصابات المباشرة، ما يبرز بشكل مؤلم أن رحم المرأة لم يكن بمنأى عن عنف الحرب، بل كان في صلبها، حيث سلبت الحرب حق الحياة من أجساد وأرواح على حد سواء.
قصص مأساوية لجسد مبتور وأمومة مسلوبة
تسنيم عبد المحسن، فتاة فلسطينية تبلغ من العمر 31 عامًا، نزحت من رفح إلى خانيونس مع عائلتها هربًا من القصف المستمر. كانت تحتمي مع عائلتها في خيمة عندما استهدفهم صاروخ من طائرة أباتشي مباشرة، أدى إلى استشهاد زوجها وابنها على الفور. وأصيبت تسنيم إصابة مباشرة أدت إلى بتر ساقها اليمنى مع تهتك شديد في الساق اليسرى.
كانت تسنيم في شهرها الخامس من الحمل عندما أصيبت، ولم يتوقف ألمها عند الإصابة الجسدية فقط، بل فقدت جنينها بسبب النزيف والصدمة. لم يخبرها أحد بخسارة الجنين إلا بعد أيام من الحادث، ما شكل صدمة نفسية مضاعفة.
تروي تسنيم: "فجأة، انطفأت الدنيا. لم أسمع شيئًا بعدها، لكن شعرت أن جسدي يتفتت. عندما استيقظت بعد ستة أيام من الغيبوبة، اكتشفت أنني بلا ساق، وأن الجنين مات."
تعيش تسنيم اليوم معاناة جسدية ونفسية يومية، تشمل الألم الناتج عن البتر، وصعوبة الحركة، إضافة إلى التهابات حادة، وحروق، وتقرحات تزيد من معاناتها. تقول عن أثر الحادث على عائلتها: "الأصعب أنني لم أودع زوجي وابني لأنني كنت في غيبوبة، وبنتي مريم لا تزال عاجزة عن استيعاب فقدان أخيها."
نرمين شعت، شابة فلسطينية تبلغ من العمر 23 عامًا، عاشت مأساتها الخاصة حين فقدت عائلتها بأكملها بعد قصف منزلها وهي في أيامها الأخيرة من الحمل. خضعت لعملية قيصرية طارئة خلال غيبوبتها، وأصيبت ببتر في ساقها وكسر في الأخرى. استيقظت على خبر استشهاد رضيعها وزوجها، ولاحقًا فقدت طفلتها "رنيم" التي توفيت بعد أيام من الولادة.
اليوم، تتلقى نرمين العلاج في مصر، وتعاني من وحدة قاسية وألم نفسي وجسدي متواصل. تقول: "أسوأ شعور هو أنني أُعاني وحدي... وكل يوم يمرّ يكون أثقل من الذي قبله." على الرغم من مأساتها، تتشبث نرمين بالأمل في الحصول على طرف صناعي يمكّنها من المشي مجددًا، واستكمال دراستها التي توقفت بسبب الإصابة. تختم حديثها بثقة: "سيأتي العوض... حسبي الله ونعم الوكيل."
تحديات الحياة اليومية مع البتر: رحلة صعبة نحو الاستقلال
تعرضت جيهان نبيل عبد الله شعت (31 عامًا) لإصابة خطيرة إثر قصف طال منزل جيرانها أثناء تحضيرها للطعام في خيمتها. فقدت قدمها اليسرى فوق الركبة، وأصيبت يدها اليسرى بشدة وثبتت بأجهزة طبية متقدمة. إلا أن نقص الأدوية وغياب الرعاية الصحية، بالإضافة لعدم توفير أدوات مساعدة كالكراسي المتحركة أو العكازات، جعل من نزوحها وتجربتها مع الإصابة أشد قسوة من الحرب ذاتها.
تحمل جيهان على عاتقها أعباء بيت مهدّم وأطفال يحتاجون لرعايتها وسط ألم مستمر. تقول: "لا أطلب الكثير، فقط أن أتمكن من الوقوف على قدميّ لأحتضن أطفالي وأمنحهم الأمان. لا أريد أن أكون عبئًا عليهم. سأكون قوية من أجلهم، حتى لو لم أستطع المشي بسهولة، فلن أستسلم." حلمها الآن هو السفر لتلقي العلاج والتأهيل والعودة إلى حياتها كأم قادرة على الوقوف بين أطفالها.
الجانب الطبي والنفسي: مرارة جراح غزة
يروي الدكتور محمد جمال، جراح في مستشفيات قطاع غزة، مآسي لا تنتهي يوميًا بين نساء وأطفال فقدوا أطرافهم وأحبّاءهم. يقول بتأثر: "أصعب ما مررت به هو معالجة فتيات ونساء فقدن عائلاتهن وتعانين من البتر. نظراتهن المليئة بالحسرة والدموع تدفعني أحيانًا لمغادرة الغرفة حتى لا تلاحظ دموعي."
يروي مشاهد مؤلمة عن طفلة فقدت طرفها وكل أسرتها، ورضيع لم يتجاوز عمره عشرة أيام اضطر لبتر أحد أطرافه، ويتساءل: "ماذا فعل هذا الطفل ليبدأ حياته بإعاقة؟" يولي الدكتور جمال اهتمامًا خاصًا للنساء الحوامل، ويصف إصاباتهن بأنها مدمرة نفسيًا وجسديًا. "البتر ليس مجرد فقدان طرف، بل صدمة للأمومة والحياة. كثيرات فقدن أجنتهن بسبب القصف والمواد السامة التي تهتك الأعضاء."
يوضح أن أحيانًا لا يكون هناك خيار سوى البتر لإنقاذ حياة المريضة، خصوصًا في حال تمزق الأوعية الدموية أو تعرض الأعضاء لأضرار لا رجعة فيها.
ويضيف أن التحديات لا تنتهي بعد البتر، فغالبية النساء يفتقرن إلى برامج التأهيل المتخصصة، والعلاج الفيزيائي، والدعم النفسي اللازم، وكذلك الأجهزة التعويضية. ويشدد على أن نقص هذه الخدمات يزيد من صعوبة استعادة حياة طبيعية ويعمّق معاناة الضحايا.
تُواجه النساء اللواتي تعرّضن للبتر في قطاع غزة سلسلة من التحديات المستمرة التي تمتد إلى ما بعد الإصابة الجسدية المباشرة. لا تقتصر معاناتهن على فقدان الأطراف، بل تشمل تداعيات واسعة النطاق تمسّ الجوانب الطبية والنفسية والاجتماعية لحياتهن.