غزة/ البوابة 24- رشا كحيل:
في قلب حيّ التفاح شرقي مدينة غزة، حيث اختلطت رائحة البارود بدخان الطهو، يقف عز الدين الدالي، شاب في الثالثة والعشرين من عمره، منهمكًا في تنسيق ما استطاع تحضيره من وجبات يومية يقدمها عبر "تكية عزوز" لعائلات نازحة من شمال القطاع. لكن التحدي الأكبر بالنسبة له لم يعد توفير الطعام، بل القدرة على تحصيل التبرعات في ظل الحصار المالي الخانق الذي ضرب غزة منذ اليوم الأول للحرب المستمرة منذ أكثر من عام ونصف.
من الحرب إلى الجوع
"بدأت التكية مع بدء الحرب، عندما بدأت أرى الناس عاجزين عن شراء الخبز"، يقول عز الدين. كان يعتمد على دعم مغتربين وأصدقاء من الخارج، يرسلون له تبرعات صغيرة لمساعدته في تغطية كلفة الطعام. في البداية، كانت الحوالات تصل إليه بطرق بديلة وعبر وسطاء، لكنها لم تكن مثقلة بالتكاليف كما هي اليوم.
فمع انهيار النظام المصرفي في غزة، وتوقف البنوك عن العمل بفعل الاستهداف الإسرائيلي المباشر، صار الوصول إلى المال تحديًا بحد ذاته. اضطر عز الدين للجوء إلى حلول بديلة، فصار يُطلب من المتبرعين إرسال الأموال إلى صديق له خارج القطاع، ليقوم الأخير بتحويلها عبر تطبيقات مصرفية إلى غزة. هنا يبدأ الاستنزاف المالي الحقيقي.
"35% من المبلغ يضيع في الطريق"
في حديثه، يشرح عز الدين بلغة الأرقام: "إذا استلمت تبرعًا يكفي لإطعام 100 عائلة، ما يصل فعليًا لا يكفي سوى 65. يعني أن أكثر من مئة شخص يحرمون من وجبة كان من المفترض أن تصلهم". السبب هو نسبة العمولة المرتفعة التي يفرضها الوسطاء مقابل تحويل الأموال إلى غزة نقدًا، وهي نسبة وصلت حاليًا إلى نحو 35%.
هذه النسبة لم تكن دائمًا بهذه الضخامة. خلال الأشهر الأولى للحرب، تراوحت ما بين 5 إلى 10%. لكنها أخذت بالتصاعد تدريجيًا مع استمرار استهداف البنية المصرفية وتراجع السيولة النقدية، حتى أصبحت اليوم واحدة من أبرز عوائق العمل الإنساني في غزة.
مغتربون تحت المراقبة
إسلام، مغتربة فلسطينية تقيم في السعودية، كانت تعتبر نفسها خط الدعم الأول لعائلتها في غزة. قبل الحرب، اعتادت استخدام خدمات مثل "ويسترن يونيون" لإرسال ما تحتاجه العائلة من مصاريف. لكن بعد توقف الخدمة بالكامل عن العمل في غزة، لجأت إلى التحويل المباشر عبر البنك.
تقول: "أول تحويل مرّ دون مشاكل، لكن بعدها بدأ البنك يعطل الحساب. قالوا لي إن التحويل مشبوه، وطلبوا إثباتات علاقة قرابة. ومع كل محاولة جديدة، كان الحساب يُجمّد تلقائيًا". وتشير إلى أن هذا التعطيل وصل لدرجة أنها لم تعد قادرة على استخدام حسابها البنكي حتى داخليًا داخل السعودية.
وتتابع: "أشعر بالعجز التام. لا أستطيع إرسال أي مبلغ. أشعر وكأنني مراقبة ومقيدة فقط لأني أحاول مساعدة عائلتي. الأمر مهين".
النظام المصرفي... ضحية الحرب
منذ اليوم الأول للحرب، عمدت إسرائيل إلى استهداف مراكز حيوية في النظام المالي بقطاع غزة. تم تدمير عشرات فروع البنوك، ومكاتب الصرافة، وآلات السحب الآلي. ووفق بيانات سلطة النقد الفلسطينية، فإن 56 فرعًا مصرفيًا و91 جهاز صراف آلي خرجت عن الخدمة بشكل كلي أو جزئي، مما عمّق أزمة السيولة في القطاع.
نتيجة لذلك، ظهرت أنماط غير رسمية من التعاملات المالية، أبرزها نظام "التحويل مقابل النسبة"، حيث يقوم الشخص بتحويل إلكتروني لصاحب سيولة نقدية، مقابل أن يسحب له المبلغ ويُعطيه إياه بعد خصم نسبة قد تصل إلى الثلث.
التكيات في مرمى الأزمة
الواقع الجديد لم يرحم التكيات التي انتشرت كملاذ إنساني لمواجهة الجوع. إذ تعتمد هذه المبادرات على دعم المغتربين والتحويلات الفردية لتأمين الوجبات. لكن في ظل هذا الاستنزاف، تحوّلت التكية من وسيلة إنقاذ إلى مبادرة مهددة بالإغلاق.
"كل يوم أصحى أفكر: هل راح أقدر أطبخ اليوم؟ إذا ما وصلني تحويل، أو إذا خسرنا نسبة كبيرة منه، الجواب غالبًا بيكون لا"، يقول عز الدين بأسى.
غياب البنوك = غياب الحياة
المشكلة أعمق من فقدان البنية المصرفية. فغياب آليات رسمية للتحويل أو رقابة على سوق التحويلات خلق بيئة استغلال مالي، يدفع ثمنها الفقراء والنازحون بالدرجة الأولى. وبغياب سلطة نقد فعالة أو منظومة بديلة، باتت التحويلات أشبه بالقمار، لا أحد يعرف كم منها سيصل وكم سيضيع في الطريق.
طريق مسدود… بانتظار كسر الحصار
لم يعد الخطر في غزة فقط في الصواريخ أو الركام، بل في الجوع المُركّب، حيث تتحول المساعدات إلى أحمال ثقيلة يُنهكها الحصار قبل أن تصل. ومع غياب حلول اقتصادية واضحة، وانعدام تدخل فعّال من المؤسسات المالية الدولية، يبقى المواطن الغزي محاصرًا بالجوع، ومقيدًا بالنسب، ومحرومًا من حقه في التحويل والاستلام.
وفي وقت يواصل فيه آلاف الغزيين الاعتماد على مبادرات فردية مثل "تكية عزوز"، تبقى المساعدات الإنسانية رهينة معادلات مالية مشوّهة، لا تخضع للمنطق، بل فقط لسطوة الحصار