غزة/ البوابة 24- حلا أبو عيشة:
بحرقةٍ رفعت إسلام حجاج (36 عامًا) شهادة وفاة ابنتها ذات الشهرين، وقالت باكيةً: "لقد توفيت بسبب سوء التغذية، توفّيت جائعة بينما العالم الأعمى يلقي بالطعام إلى القمامة".
تشير السيدة التي يبدو على وجهها الشحوب إلى ابنتها الثانية (3 سنوات)، الممدّدة على فراشٍ رقيق داخل خيمتها المهترئة: "أخشى أن أفقد ابنتي الثانية أيضًا بسبب المجاعة (..) نأكل الخبز الجاف منذ أيام، وقد عافته نفسها. طفلة في عمرها بحاجة للحليب والفاكهة واللحوم حتى تنمو بشكل صحّي".
عاشت طفلة إسلام الصُغرى التي تسميها "شهيدة الجوع"، في هذه الدنيا شهرين اثنين. في ظل قصفٍ مريع، ونزوحٍ متكرر، وجوعٍ شديد طال أمها التي لم تستطع أن ترضعها، أو حتى أن توفر لها الحليب الصناعي في ظل انعدام وجوده في الأسواق والصيدليات.
وتتابع: "بقينا لتسعة أيام في مستشفى أصدقاء المريض، وقد شخّص الأطباء إصابتها بسوء التغذية الحاد حيث تحولت لهيكل عظمي. ابنتي الثانية تحلم بتذوق اللحم والدجاج، حتى أنها تشتهي البندورة! نعيش بلا طحين منذ أسابيع، وأحيانًا أضطر لطلب الخبز من الجيران، وغالبًا أحصل على واحدٍ جاف فالكل يعيش المأساة نفسها".
وفي اليوم العالمي للأطفال الأبرياء ضحايا العدوان، الذي أقرته الأمم المتحدة عام 1982م، ويصادف الرابع من يونيو من كل عام، يعيش أطفال قطاع ظروفًا قاهرة، في ظل حرب الإبادة التي تواصل دولة الاحتلال الإسرائيلية شنّها على الفلسطينيين والمدنيين في قطاع غزة منذ السابع من أكتوبر/ تشرين أول 2023م.
وتحدثت وزارة الصحة بغزة، قبل أيام، عن استشهاد 16 ألفًا و500 طفل منذ بدء العدوان على القطاع، بينهم 916 رضيعًا تقل أعمارهم عن عام.
وتعاني شريحة الأطفال في قطاع غزة، بسبب ظروف الحرب وما فرضته دولة الاحتلال على السكان من تجويع ممنهج، وإجبار على النزوح، أوضاعًا نفسية صعبة، في حين أضحى الطعام بالنسبة لهم، حلمًا يصعب الحصول عليه، حيث حذر برنامج الغذاء العالمي من أن أكثر من 70 ألف طفل في قطاع غزة، يواجهون مستويات حادة من سوء التغذية.
وأشارت منظمة الأمم المتحدة للطفولة مؤخرًا، إلى أن أكثر من 17 ألف طفل، بحاجة ماسة للعلاج، في ظل استمرار "إسرائيل" تعنتها بإغلاق المعابر، ومنع دخول المستلزمات الطبية والأدوية والغذاء.
"بتر" على طاولة طعام!
ولا تنسى الطفلة عهد بسيسو (17 عامًا) أسوأ أيام حياتها، رغم مرور عام، حين اضطر خالها الطبيب هاني بسيسو لبتر ساقها بدون تخدير، حيث أصيبت بقصف إسرائيلي طال منزل عائلتها بمدينة غزة.
باستخدام مقص صغير، وبعض الشاش الذي كان يمتلكه في حقيبته الطبية، أزال الخال الجزء السفلي من ساق عهد اليمنى، في عمليةٍ جراحية أجريت على طاولة طعام!
وبرغم أن المنزل يبعد حوالي كيلومترين من مجمع الشفاء الطبي، إلا أن القصف الإسرائيلي المكثف للمنطقة والحصار المستمر منذ 15 يومًا، جعلا محاولة الوصول إلى هناك خطيرةً للغاية. يحكي الخال: "لم يكن أمامي خيار، أن أبتر الساق بما أملكه من إمكانيات أو أن تموت عهد".
وفي ظل انهيار المنظومة الصحية، وتوقف معظم مستشفيات قطاع غزة عن العمل، تفاقم الوضع سوءًا بخصوص الرعاية المقدمة للأطفال، وصار التعامل مع الإصابات قائم على أرجحية العيش، وحجم الإصابة، في وقتٍ ارتفع فيه عدد الأيتام وفق الجهاز المركزي للإحصاء الفلسطيني إلى ما يزيد على 39 ألفًا و384 طفلًا منذ بدأ الإبادة، فقدوا أحد والديهم أو كلاهما.
"ليتني استشهدت معهم"
وفي محاولةٍ للتعايش مع واقعها الجديد، بدون أم ولا أب ولا إخوة، تحاول الطفلة أمينة موسى الخطيب، الناجية الوحيدة من عائلتها أن تشغل نفسها بالرسم عن تلك الذكرى التي تلاحقها كلما أغمضت عينيها قليلًا.
لحظةٌ واحدة، غيرت حياتها للأبد، حين استهدفت غارة إسرائيلية المنزل الذي نزحت إليه عائلتها بحثًا عن الأمان. تقول: "كنت أظن أنني أحلم، أو أن أخوتي يمزحون معي، لكن بعد لحظات بدأت أختنق.. ناديت أسماءهم كلهم لكن لم يجبني أحد".
في السابع من أكتوبر 2023، ومع بدء حرب الإبادة الجماعية الإسرائيلية على قطاع غزة، اضطرت عائلة أمينة للنزوح من منطقة المغراقة إلى النصيرات.
وتكمل: "ماما قالت لنا: صلّوا المغرب، ثم خذوا الجوال وشاهدوا شيئًا عليه. تجمعنا على وسادة واحدة كبيرة، أنا وإخوتي عبيدة وليان وسوار، في حين كان بابا وماما وعبد الرحمن في غرفة ثانية، وبدأنا بمشاهدة الكرتون". حدث ذلك في الخامس من يوليو 2024م، ولم تكن أمينة تعلم أن هذه ستكون ليلتهم الأخيرة معًا.
لحظات فقط، تحول المنزل بعدها إلى ركام. أمينة، العالقة تحت الأنقاض، لم تفهم ما حدث. شعرت بجسدها محاصرًا، وأنفاسها تضيق، لكنها ظلت تنتظر أن يوقظها إخوتها! بعد ساعتين، أنقذها الناس من تحت الركام، خرجت بمساعدة رجال الدفاع المدني مصابة بكسر في قدمها، لتكتشف بعدها أن عائلتها كلها قُتلت.
لا تتوقف الطفلة عن ترديد عبارةٍ واحدة، في ظل واقعٍ نفسيٍ متردٍ تعيشه: "يا ليتني استشهدت مع عائلتي. ليتني لم أبق على قيد الحياة لأرى هذا الظلم كله" في إشارةٍ منها إلى استمرار شلال الدم، وتواصل مسلسل النزوح، وتفشّي المجاعة.
"جميع الأطفال بحاجة للدعم النفسي"
ومثل أمينة، أطفال كثر، صار البقاء على قيد الحياة كابوسًا يعيشونه وحدهم، بدون عائلة، حيث تتزايد مخاوفهم مع صوت كل صاروخ يسمعونه سواءً كان قريبًا أو بعيدًا عنهم، ويحلمون بالعيش في أمان وسلام مع عائلاتهم داخل بيوتٍ دافئة، ويقتنعون أن ذلك يمكن أن يتحقق في السماء فقط، حين يلحقون بهم شهداء.
وتؤكد الأخصائية النفسية ليلى علي، إلى أن ما تعرض له الأطفال في قطاع غزة، على مدار أكثر من عامٍ ونصف من الجرائم الوحشية، يجب أن يكون محط قلق للعالم، متسائلة: "ماذا يتوقعون من جيل لن ينجو من الاضطرابات النفسية لسنوات طويلة؟".
ووفق منظمة "يونيسيف" فإن أكثر من 500 ألف طفل، كانوا بحاجة للدعم النفسي والاجتماعي في قطاع غزة قبل الإبادة، "لكن الآن جميع الأطفال بلا استثناء -أي أكثر من مليون طفل- بحاجة للدعم النفسي والاجتماعي" وفق تقريرٍ نشر مؤخرًا.
ويظهر التأثير النفسي للاضطرابات التي يعاني منها الأطفال نتيجة الصدمات، منذ السابع من أكتوبر/ تشرين أول -والحديث لعلي- على شكل خوف وعصبية وتشنجات وتبول ليلي وقلق مستمر، كرد فعل على الصدمة النفسية المعقدة والمستمرة، التي تنطوي على ضغوطات متراكمة، تطغى على قدرة الفرد على التأقلم والتكيف.
وتُعرف المشاعر والظروف المرتبطة بالحرب باسم "صدمة الحرب"، التي قد تفضي إلى عواقب طويلة الأمد على الصحة العقلية والنفسية لدى الطفل، وتظهر بأعراض عديدة، منها "الخدر العاطفي، وصعوبات تتعلق بالإدراك والذاكرة، والانفصال عن الواقع، والآلام الجسدية بدون أسباب، واليقظة المفرطة، وسلوكيات التجنب، والتصور السلبي للذات"، وغالبًا ما تظهر على شكل صعوبات في النوم، وكوابيس.
وتزيد: "يدفع الناجون من الأطفال ثمنًا باهظًا لهذه الحرب من معنوياتهم، حيث يتماسّون بشكل مباشر مع مشاهد القصف والحرق والقتل والهدم والتدمير، وغالبيتهم لا ينامون من شدة الخوف، ويشعرون بآلام في أطرافهم من شدة الارتجاف"، مؤكدةً أن القلق المستمر الذي عاشوه على مدار أشهر الحرب الطويلة، سيولد في دواخلهم صدمات عميقة، ربما تكون طويلة ومعقدة.
"طمئنوهم"
وتابعت: "هذه الحرب وما تتركه من ندوب جسدية وعقلية ونفسية، يمكن أن تؤدي إلى نهش قدرة الأطفال على الصمود، لا سيما لدى أولئك الذين شهدوا عمليات قتل وحشية لآبائهم على أيدي الجنود، أو رأوا تدمير منازلهم بأم أعينهم، أو فقدوا إخوتهم وأصدقاءهم -حتى ولو لأسباب طبيعية ناجمة عن ظروف الحرب- كالموت بردًا".
ودعت الأهالي، والقائمين على الأطفال، رغم صعوبة الواقع الذي يعيشونه، إلى محاولة دعمهم نفسيًا ما أمكن، والتعالي على الظروف من أجل تضميد الجراح النفسية الغائرة في صدورهم، قائلةً: "طمئنوهم، فالتدفق المستمر لأخبار وصور ومشاهد الموت سيجعلهم غارقين في دوامة تفكير دائمة بأنهم داخل دائرة الخطر، وأن مصيرهم الموت لا محالة طالما أن القصف مستمر".
ونادت بضرورة عدم التقليل من شأن مخاوف الطفل أو التغافل عنها، خصوصًا لو جاءت على شكل أسئلة مثل: "هل سنموت كلنا؟"، معقبةً: "هنا، لا بد من تفهم مشاعرهم، وطمأنتهم بأن هذه الأيام ستمر، وكل هذا سينتهي (..) أخبروهم أنكم على استعداد للاستماع لهم في أي وقت، وأنهم في حماية الله دائمًا".