"الداتورا" البرية.."موت" على شكل "زهرة" بين خيام النازحين!

صورة توضيحية
صورة توضيحية

غزة/ البوابة 24- دعاء شاهين:

بين خيام النازحين في منطقة المواصي جنوبي قطاع غزة، كانت إسلام الغصين (37 عامًا) تجهّز طعام الغداء لأطفالها الثلاثة. مشهد النار المشتعلة تحت قدر العدس المعتاد، سرعان ما تحوّل إلى كابوس حين جاءها طفلها مؤيد، ذو الأربعة أعوام، يتقيأ وتبدو عليه علامات الاضطراب والتعب.

تقول إسلام بصوت متهدّج أنهكته مشقات النزوح المتكرر: "لم أعطِ الأمر أهمية في البداية. نحن نعيش في بيئة مليئة بالأمراض، واعتقدت أنه تناول شيئًا غير نظيف". لكن ملامح الطفل بدأت تتغير بسرعة مخيفة. عيناه اتسعتا بشكل غير طبيعي، لعابه سال، وارتخى جسده بين يديها.

تحكي الأم تفاصيل لحظات الذعر: "ركضت به إلى أقرب نقطة طبية، كان يهذي بكلمات غير مفهومة ويرى أشياء لا نراها نحن". وهناك، وبعد فحص دقيق، أخبرها الطبيب أن مؤيد قد يكون لامس أو تناول نبتة سامة تُدعى "الداتورا"، وهي من الأعشاب السامة المعروفة بتأثيراتها على الجهاز العصبي.

أعراض مفاجئة وقصص تتكرر

لم تكن قصة مؤيد استثناءً. الطفلة سارة محمود (12 عامًا)، التي كانت تلعب بين الخيام، جمعت زهورًا ونباتات لتزيّن بها خيمتهم. بعد وقت قصير بدأت تهذي بكلمات غير مفهومة، اتسعت حدقتا عينيها، وبدت عليها أعراض دوار وهذيان.

يقول والدها محمود، وهو نازح منذ أكثر من عام ونصف: "أخذتها بسرعة إلى المستشفى. وبعد استفسارات الطبيب، تبين أنها ربما لامست نفس النبتة، الداتورا". يتحدث بألم قائلًا: "نحن نعيش في منطقة شبه صحراوية مليئة بالنباتات العشوائية والنفايات. أبذل جهدي لحماية أطفالي الستة، لكن لا أستطيع السيطرة على كل ما يحيط بنا".

وتساءل الأب، بعينين غارقتين في التعب: "كم مرة على الطفل الغزي أن ينجو؟ من القصف، من الجوع، من النزوح، والآن من الأعشاب السامة؟"

تحذيرات من الطب الوقائي

وكان الطب الوقائي في قطاع غزة، أطلق تحذيرات عاجلة من النبتة التي أُطلق عليها عدة أسماء منها "نبات الجن"، و"زهرة القمر"، و"تفاحة الشيطان". وأوضح أن حالات تسمم وصلت إلى مستشفيات في مناطق الوسطى وخانيونس نتيجة ملامسة أو تناول هذه النبتة، وخاصة بين الأطفال.

ووفقًا لتصريحات الدكتور أيمن أبو رحمة، مدير دائرة الطب الوقائي بغزة، فإن أعراض التسمم تبدأ باحمرار الوجه، واتساع حدقة العين، وتسارع ضربات القلب، ثم تتطور إلى هلوسات سمعية وبصرية، وقد تصل إلى نوبات تشنج وفقدان وعي، بل وموت إذا لم يُعالج المصاب بسرعة.

وأشار أبو رحمة إلى أن هذه الأعراض تم رصدها لدى عدد من الأطفال خلال الأسابيع الأخيرة، وتكرار الحالات دفع الجهات الطبية إلى البحث والتحقيق، ليتبين أن السبب المشترك بينهم هو نبتة "الداتورا" المنتشرة بجانب خيام النزوح في المواصي.

مخيمات النزوح.. بيئة خصبة للخطر

الوضع الإنساني في مخيمات النزوح يجعل من التسمم النباتي خطرًا مضاعفًا. غياب الخدمات الأساسية مثل المياه النظيفة والصرف الصحي، وتكدس النفايات، يجعل من الأرض بيئة مثالية لتكاثر الأوبئة وانتشار النباتات السامة.

النازحون يعيشون بين خيام متلاصقة، حيث الرطوبة والحرارة والمياه الراكدة، كل ذلك يخلق بيئة غير آمنة، لا سيما للأطفال الذين غالبًا ما يلعبون في الخارج دون رقابة كافية.

المختص البيئي عبد الفتاح عبد ربه أشار إلى أن نبتة "الداتورا" تُزرع عادةً في الأراضي المهجورة وعلى جوانب الطرقات، وانتشارها في غزة بدأ قبل نحو عشرة أعوام، لكن زادت كثافتها في المناطق الزراعية مثل المواصي. وأوضح أنها نبتة شديدة السمية، تحتوي على مركبات مثل "الأتروبين" و"السكوبولامين" التي تؤثر على الجهاز العصبي وتسبب الهلوسة والتسمم.

نبتة ذات حدّين

ورغم سميتها، يشير عبد ربه إلى أن نبتة "الداتورا" لها استخدامات طبية معروفة في بعض الثقافات، وتدخل أحيانًا في تصنيع الأدوية المخدرة أو المسكنات. لكن استخدامها يتطلب معرفة دقيقة وإشرافًا طبيًا صارمًا، وإلا فهي تتحوّل إلى أداة فتك حقيقية.

ويحذر عبد ربه من النبة بقوله: "وجودها في مناطق النزوح دون رقابة يشكل تهديدًا خطيرًا، يجب إزالتها أو على الأقل نشر التوعية حولها، فملامستها أو تناولها قد يكون كافيًا لإدخال الطفل في غيبوبة أو أسوأ".

الخطر في تفاصيل الحياة اليومية

في غزة، لم يعد الخطر مقتصرًا على القصف أو الجوع، بل تسلّل إلى أدق تفاصيل الحياة اليومية. نبتة على قارعة الطريق، زهرة بريئة في نظر طفل، قد تكون قاتلة. وتبقى معاناة النازحين وصراعهم مع الموت اليومي مستمرًا، في انتظار حماية لا تأتي، أو وعي غائب بين الخيام.

في أرض لا تنتهي فيها المآسي، أصبحت "الداتورا" عنوانًا جديدًا للموت الصامت، يتربص بالأبرياء، ويكشف هشاشة الواقع الذي يعيشه الأطفال في قطاع غزة، حيث لا شيء آمن... حتى الزهرة.

البوابة 24