الإغواء السياسي

د. إياد أبو الهنود
في تجارب الشعوب عبر التاريخ، لم يكن الاحتلال مجرد فعل عسكري مباشر، بل منظومة مركبة من السيطرة والهيمنة واستغلال الثروات وتفكيك المجتمعات، وإخضاعها لأجندات كبرى، لم يكن الاحتلال دائمًا بالسلاح وحده، بل كثيرًا ما تسلل من بوابة الإغواء: سياسة تتكئ على الخداع، وشراء الذمم، وتضليل النخب، وتفتيت البنية الداخلية للشعوب عبر وعودٍ زائفة وتسويات مخادعة، تنجح غالبًا في ضرب الداخل دون إطلاق رصاصة واحدة.
في المشهد الفلسطيني، ومع اقتراب حرب الإبادة في قطاع غزة من إنهاء عامها الثاني، يظهر هذا النمط من الإغواء السياسي بأوضح صوره: معركة مفتوحة تُحرق فيها الأرض، ويُزهق فيها الآلاف من الأرواح، وتُفكك المجتمعات قهرًا وتجويعًا، فيما تُعقد لقاءات معلنة أو في الخفاء، لا تنتهي إلى حلّ، بل تغرق في متاهة التفاصيل، وتُستخدم فيها أدوات تفاوضية عبثية، تفضي إلى إطالة أمد المعركة لا نهايتها، وها هنا بيت القصيد: الشيطان يكمن في التفاصيل، كما يُقال. 
لكن الأخطر أن الاحتلال، مدعومًا بالقوى الغربية، يتقمص دور الشيطان نفسه، فيُغوي المفاوضين بوهم أن الحل بات وشيكًا، وأن من يُطِل الصبر سيقطف ثمار السلطة والنفوذ، وهكذا تُنسج الأوهام القاتلة، فتُقدَّم الطاولة بديلاً عن الميدان، ويُفضَّل الثبات في المفاوضات على التمسك بالوحدة الوطنية، كأن النصر يُصنع في دهاليز الانتظار لا في ساحات الفعل.
وهكذا يصبح الإغواء السياسي أداة استعمارية متقدمة: يُقدَّم للبعض فتات سلطة مقابل التنازل عن الأرض، أو يُمنح الاعتراف الدولي مقابل قبول الأمر الواقع، أو تُغوى الحركات بوعودٍ خادعة بأن المرحلة القادمة ستكون لهم. 
في الواقع الفلسطيني، تُغرى بعض القوى المسيطرة على غزة بالتصديق بأن العالم سيعترف بها في النهاية، إذا التزمت بما يطلبه الخارج، حتى لو كان ذلك على حساب وحدة الصف الفلسطيني، أو على حساب مشروع التحرر الحقيقي، وهكذا يتحول الوهم إلى فخّ يبعدنا أكثر عن الهدف الوطني.
وللإغواء شواهد من التاريخ القريب، تقدم نفسها اليوم كدليل إقناع، انظر إلى تجربة طالبان: من حركة صنّفت إرهابية، إلى طرف تفاوضت معه واشنطن، ثم تسلمت مفاتيح السلطة في كابول بعد انسحاب أمريكي بدا وكأنه اعتراف بالأمر الواقع. 
تأمل في تجربة قادة ‘هيئة تحرير الشام’ في سوريا، الذين انتقلوا من جماعة مصنّفة على قوائم الإرهاب، إلى شخصيات يُروَّج لها إعلاميًا في الغرب كقادة محليين براغماتيين، يمكن التعاطي معهم في إطار توازنات جديدة.
هاتان التجربتان تُساقان اليوم كنماذج إغواء، توحي بأن من يثبت في موقعه، ويُظهر بعض “الواقعية”، قد يُكافَأ بالسلطة لاحقًا، ولو على حساب الدماء والشرعية الشعبية والمصلحة الوطنية.
هكذا يُصاغ الفخّ: يُطلب من البعض أن يستمر فيما هو عليه، أن يرفض المصالحة، أن يعمّق الانقسام، لأن المشروع في النهاية سيصُب في صالحه، وما دامت الآلة الدعائية تبث هذا الوهم، وما دامت بعض القوى تتلقى إشارات متكررة تؤيد بقائها في السلطة، فإن شبح المصالحة يتوارى، وتُؤجل أسئلة الشراكة الوطنية إلى أجلٍ غير مسمى.
هنا يبرز السؤال الجوهري: لماذا، ومع كل هذا النزيف الفلسطيني، لم تتخذ القوى المسيطرة في غزة خطوة واحدة باتجاه تحقيق المصالحة الوطنية؟ لماذا لم يُفتح أفق لوحدة القرار الفلسطيني؟ أليس ذلك أولى من أي تحرك خارجي؟ أليس تثبيت الجبهة الداخلية هو الحصانة الأخيرة في وجه مشروع التصفية؟ أليس التوافق الداخلي هو خط الدفاع الأول أمام محاولات إعادة رسم خريطة التمثيل السياسي الفلسطيني؟
ربما يكون الجواب في قلب ما يمكن تسميته بالإغواء السياسي، حين يُقنِعُ الشيطان بعض من فاوضه بأن نهاية الطريق ستكون له، وأن الخسائر مجرّد ثمن “استراتيجي” للسلطة المقبلة، ولو كانت تلك السلطة نتاج مساومة على الحقوق، أو ناتجة عن قبول مشروط من الخارج لا ينبع من الداخل.
لقد قدّم القرآن الكريم تصويرًا بليغًا لهذا النمط من الخداع حين قال عن الشيطان: “وَقَاسَمَهُمَا إِنِّي لَكُمَا لَمِنَ النَّاصِحِينَ”، وكيف انتهى الحال بقوله في مشهد التنصل: “كَمَثَلِ الشَّيْطَانِ إِذْ قَالَ لِلْإِنسَانِ اكْفُرْ فَلَمَّا كَفَرَ قَالَ إِنِّي بَرِيءٌ مِّنكَ إِنِّي أَخَافُ اللَّهَ رَبَّ الْعَالَمِينَ”. 
إن هذا هو ديدن الاحتلال وأعوانه: يوهمونك بأنك تسير نحو المجد، ثم يتبرؤون منك حين تقع في الفخ، ويجعلونك تتحمل ثمن اللعبة وحدك، وتدفع كلفتها من دمك وشرعيتك وتاريخك.

البوابة 24