غزة/ البوابة 24- رشا أحمد:
في غزة، لا تُقصف الأبنية فقط، بل تُقصف اللغة أيضًا. مع كل انفجار، تتبعثر ليس فقط الجدران بل المفردات، وتتحول اللغة من أداة تعبير إلى وسيلة بقاء. الكلمات التي كانت تُستخدم للحب، للأمل، للحياة، أصبحت مشبعة بالنجاة والصدمة والسخرية المرّة. في هذا السياق، يتشكّل معجم جديد، ليس من القواميس، بل من الجراح اليومية.
اللغة بوصفها ضحية ثانية: التغيّر في المفردات والنبرة
تُستبدل تحيات الصباح المعتادة بأسئلة وجودية: "ضلّك حي؟"، وتتحول الجملة البسيطة مثل "نجونا الليلة" إلى نصٍ أثمن من الشعر. في حديثه لـ"البوابة 24"، يقول الأخصائي النفسي د. رمضان بركة: "اللغة التي يستخدمها الفلسطينيون في غزة هذه الأيام تحمل أعراض اضطراب ما بعد الصدمة، لكنها مغلّفة بثقافة جماعية ذكية تسعى إلى التكيّف مع الجنون."
ويضيف: "حين يقول أحدهم: الحمد لله، اليوم بس خسرنا المطبخ، فهذا لا يعني الرضا، بل هو نوع من التخفيف النفسي القسري. المفردة تُخدّم البقاء العقلي، لا الحقيقة."
ويشير إلى أن استخدام مفردات مثل "عادي"، "كويس إنه مش إحنا"، أو حتى "إن شاء الله الدور علينا"، هي محاولة لا واعية لخلق سياق قابل للفهم وسط واقع غير قابل للفهم: "اللغة هنا تشبه محاولة بناء بيت من الرمال أمام الموج، لكنها تظل محاولة ضرورية."
وهكذا، يتسلل إلى الأحاديث اليومية معجم جديد بالكامل، تتكرر فيه عبارات مثل: "ضلّك حي؟" بدلًا من "صباح الخير"، و"عادي، مات عمي" كجملة تقال ببرود في محادثة واتساب. مفردات مثل: "الحمد لله، بس انكسر الشباك"، "الحارة اتقصفت، بس نحنا بخير"، و"القبة ما لحقتش الصاروخ" أصبحت وحدات لغوية لقياس شدة الخطر. كلمات مثل: "انفجروا بس ما ماتوش"، و"انقطع الاتصال… معناها إشي كبير صار" تعكس درجة الصدمة والانفصال عن الواقع. لم تعد اللغة تُستخدم لوصف الحياة، بل لتبرير استمرارها رغم كل شيء، وكأن المفردة نفسها تحولت إلى آلية تقييم: هل مرّ اليوم بسلام؟ هل نحن ما زلنا هنا؟
هذه العبارات القصيرة تختصر تجارب ضخمة من الخوف والصدمة. لم تعد اللغة تُستخدم لوصف الحياة، بل لتبرير البقاء. وكأن المفردة صارت تقيس درجة الخطر والطمأنينة في آنٍ واحد.
المعجم الجديد: من "الغروب الجميل" إلى "السماء بتنور من القصف"
وبالانتقال إلى أبعاد أوسع، تصف الباحثة اللغوية د. منال الخطيب ما يحدث بأنه "تشكل لغوي طبيعي تحت ظرف غير طبيعي". تقول: "نحن لا نعيش تحوّلاً في المفردات فقط، بل في التكوين العاطفي للغة. المعجم الغزّي اليوم يحمل طبقات من الخوف والإنكار، لكنه أيضًا يحمل بذور التحدي."
وتشير إلى أن الجيل القادم، الذي يكبر على وقع هذه المفردات الجديدة، سيكون أول من يستخدم اللغة لا بوصفها أداة وصف، بل كأداة مقاومة نفسية. "سيكتب هذا الجيل بلغة مختلفة، لأن تجربته اللغوية نفسها مختلفة بالكامل."
الضحك كقناع: السخرية السوداء في زمن الموت
في موازاة التحولات في المفردات، يظهر على السطح بُعد آخر للغة: السخرية. على وسائل التواصل الاجتماعي، تتوالد مفردات جديدة، لكنها ليست نضالية أو بطولية، بل ساخرة، موجعة، وغارقة في السوداوية. شاب غزّي يكتب: "الصاروخ فات من الشباك… بس ما شرب قهوتي، قليل ذوق!" وفي منشور آخر: "بتفكر حالك تعبان؟ أنا بنام كل يوم مع احتمال أفيق بدون سقف."
هذه النبرة الساخرة ليست مجرد فانتازيا سوداء، بل شكل من أشكال التكيّف النفسي الجماعي. بحسب تحليل نفسي ميداني، هذه التعليقات ليست ترفًا، بل وسيلة دفاع. السخرية تصبح هنا أداة لخلق مسافة نفسية مع الواقع، لا لتقزيم المأساة بل للنجاة منها.
لكن خلف هذه القشرة الساخرة، يقبع جهدٌ هائل لحماية الروح من الانكسار. ولأن اللغة أداة للبقاء، لا عجب أن تتحوّل الكتابة نفسها إلى وسيلة للتنفّس.
أصوات الكاتبات: من الزينة اللغوية إلى الكتابة كتنفّس
وفي هذا السياق، تبرز أصوات الكاتبات الشابات اللواتي يستخدمن الكتابة كوسيلة صامدة في وجه الانهيار الداخلي. الكاتبة الشابة ريما جودة، المقيمة في غزة، تقول: "صرت أكتب لأتنفّس. حتى الكلمات اللي كنت أحبها، ما عادت تطلع من قلبي. الحب صار رفاهية لغوية."
وتضيف: "أكتب جملة، أمسحها، أكتب غيرها. لكن كله بيطلع بنفس النبرة: خوفي، حزني، محاولتي أتمسك بصوتي وأنا بخسره شوي شوي."
في أحد نصوصها، تكتب: "أخاف أن أفتح فمي، فتخرج رائحة موتي قبل كلماتي." وتقول: "أمي كانت تقول لي: لا تلعني الحرب، لكن كيف لا ألعنها وقد سرقت مني لغتي؟"
وإذا خذلت اللغة، يصبح الصمت هو التعبير الوحيد الممكن. في غزة، حتى الصمت أصبح وسيلة للتعبير. في إحدى العائلات، حين سُئلت فتاة عن حلمها المستقبلي، أجابت بكلمة واحدة: "أعيش."
هذه الكلمة القصيرة تكفي لتكثيف تجربة الحرب، بدون شرح أو تفصيل. إنها جملة مشبعة، كما الحياة هناك: مقتضبة، كثيفة، مليئة بالألم.
هل تُولد هوية لغوية جديدة من تحت الأنقاض؟
الحرب تغيّر كل شيء… حتى اللغة. ما نشهده في غزة ليس مجرد تحوّل لغوي، بل إعادة تشكيل للوعي الجماعي، حيث تُصبح المفردات جبهة مقاومة، ويغدو الكلام محاولة لحماية العقل من الانهيار.
"كنا هنا... وقلنا شيئًا، حتى لو لم يسمعنا أحد." بهذه العبارة يمكن تلخيص جوهر المعركة التي تخوضها الكلمات في غزة.