غزة/ البوابة 24- حلا أبو عيشة:
حين وضعت "مروة" رضيعها قبل ثلاثة أشهر، كانت تزن (58) كيلو جرامًا. لم يكن وزنًا مرتفعًا، لكنها بدت قادرةً على الاستمرار.
على الأقل كانت قادرةً على منح الغذاء لوليدها الصغير دون أن تنهار! اليوم، داخل خيمتها الصغيرة بمواصي خان يونس، جنوبي قطاع غزة، بالكاد يصل وزنها إلى (43) كيلوغرامًا. جسدها تآكل أمام عينيها، وثديها الذي كان ممتلئًا مع بداية الولادة، صار هزيلًا، جلده مترهل ككيسٍ فارغ، يدرّ حليبًا شفافًا لا يغني ولا يسمن من جوع.
تقول مروة، التي تنزح للمرة الثانية منذ بداية الحرب: "أرضعه، لكنّه يبكي، وأنا أبكي أكثر منه. أفكّر: هل أطعمتُه ماءً؟ أم حليبًا؟".
وتضيف وهي تمسح على شعر ابنها (وأسمته آدم): "وُلد بوزن 3 كيلوغرامات، واليوم -بعد ثلاثة أشهر- وزنه لم يزد! أشعر أنني أخسره كما خسرت كل شيء في هذه الحرب. بيتي، وأماني، ومستقبلي، حتى حليب الرضاعة الذي كنت أعتمد عليه في إطعام طفلي، تبخر".
يلتقم الطفل ثدي أمه بعد أن يقرصه الجوع، ثم يتركه باكيًا، كما لو أنه يدرك أن شيئًا ما خطأ. "لا يشبع، ينام ساعة ثم يستيقظ وهو يصرخ"، تقول مروة، ثم تشير إلى طبق بلاستيكي فارغ بجوارها: "كنت آكل ثلاث تمرات يوميًا، ومعها كأس من الماء المغلي لعلي أحصل على بعض الحليب لإطعامه، ثم نفدت كمية التمر. لا حليب أطفال يساعدني في السوق، وإن وُجد فإما غالٍ جدًا أو مغشوش! لا معلبات، ولا حبوب، ولا أمل".
يرضع ماءً!
ويتحدث أطباء الأطفال في قطاع غزة، أن الحليب الذي تنتجه الأمهات في ظل المجاعة لا يلبّي الحد الأدنى من حاجات الرضيع الغذائية. قوامه خفيف، لونه أقرب إلى الرمادي الشفاف، لا يحتوي على الدهون أو العناصر المناعية الكافية. ولأن تركيبة حليب الأم تتغير حسب تغذيتها، فإن الأمهات في غزة اليوم، يرضعن أطفالهن شيئًا أقرب إلى الماء!
في خيمة أخرى، قرب ميناء غزة، تجلس نجلاء تحت غطاء مهترئ، وتحاول أن تصنع منه ظلًا يحمي طفلتها. ولدت "رُقيّة" قبل خمسة أشهر، بوزن طبيعي تجاوز 2 كيلوغرامات. أما الآن، فلا يتجاوز وزنها 2.9 كيلوغرام. لا تنمو، لا تبتسم كثيرًا، وعيناها غائرتان في وجه صغيرٍ شاحب.
تقول نجلاء: "كلما أرضعتها، صرَخَت. ليس لأن الحليب مرّ أو ساخن، بل لأنه قليل جدًا". تشير إلى صدرها وتضيف: "جف صدري، كمية الحليب التي ترضعه ابنتي قليلة للغاية. حليب رقيق كالماء، بلا طعم ولا رائحة".
تسكت قليلًا ثم تُكمل: "أضع إصبعي في فمها بعد الرضاعة، تمصّه أكثر مما ترضع! هذا يعني أنها جائعة".
في أحد الأيام، جمعت نجلاء بقايا عدس، طحنَته بحجر، ثم خلطته بالماء وطبخته فوق موقد صغير. تقول: "أكلتُ منه أنا وطفلتاي، وبعدها مرضنا. لكن لم يكن لدينا خيار آخر".
تضيف: "منذ الولادة، لم أتناول بيضة واحدة، ولا قطعة لحم، ولا حتى كأس حليب. أعيش على ما تبقى من الملح، وبعض الخبز اليابس.. والكثير من الدموع".
"جوع الأم يعني موت طفلها ببطء"
أما في بيت حانون، فنصبت شيماء خيمتها على أنقاض بيتها المدمر، حيث تجلس برفقة رضيعها الذي يبلغ من العمر ثمانية أشهر. اسمه أيهم، وعلى عمره، لا يتجاوز وزنه 4 كيلوغرامات.
ورغم أنه في عمر يجب أن يبدأ فيه بالحبو والتسنين. لا يزحف، لا يتحرك كثيرًا، وفي كل مرة يرضع فيها من ثدي أمه تنتابه نوبة بكاء طويلة.
تقول شيماء: "كنت أرضعه طبيعيًا فقط، ولم أكن أتوقع أن أصل إلى يومٍ أراه فيه يضعف بهذا الشكل". تشبك أصابعها المرتجفة وتكمل: "حليبي تغيّر لونه. صار باهتًا، خفيفًا، ينزل ببطء، ثم يتوقف. كأن جسدي توقف عن الإنتاج".
تشير إلى ساقيها النحيلتين، وتقول: "أنا جائعة. وجوع الأم يعني موت طفلها بطريقة بطيئة".
وفي الوقت الذي تواجه فيه الأمهات صعوبات شديدة في الإرضاع الطبيعي؛ بسبب سوء التغذية الحاد، تضطر كثيرات منهن إلى اللجوء للبدائل المتوفرة، مثل: ماء الأرز، أو الشاي، أو العدس، برغم خطورتها على الأطفال قبل عمر 6 أشهر.
ويعاني قطاع غزة من انقطاع تام في الحليب الصناعي منذ الثاني من آذار/ مارس الماضي، وبحسب وزارة الصحة بغزة، فإن مراكز رعاية الأمومة والطفولة لم تتمكن من توفير الحليب أو المكملات الغذائية منذ أكثر من ثلاثة أشهر، بسبب الحصار والإغلاق الكامل، ومنع دخول المواد الطبية والغذائية الأساسية.
أشجار تُثمر من العدم!
ووفق إفادات طبية، تتزايد يوميًا حالات سوء التغذية الحاد، والإسهال، والجفاف، ونقص الوزن بين الأطفال دون عمر السنة، نتيجة الاعتماد على بدائل غير آمنة.
وتشير تقارير أممية إلى أن أكثر من 14 ألف رضيع في قطاع غزة يعانون من انعدام الأمن الغذائي الحاد، من بينهم آلاف الأطفال يعيشون على بدائل بدائية وغير صحية، في ظل ارتفاع مقلق في معدلات الوفاة بين الأطفال دون سن الخامسة بسبب سوء التغذية.
الأطباء يوصون، بشكل عام، بأن تتناول المرضعة يوميًا كميات كافية من البروتين (كالبيض، والدجاج، والبقوليات)، والكالسيوم (الحليب واللبن)، والخضار الورقية، والمكسرات، والماء، لكن في غزة، لا ترى النساء هذا الغذاء إلا في أوراق التقارير الطبية.
في غياب الطعام، والدواء، والماء، وفي ظل استمرار الحصار والمجازر، تبدو أجساد الأمهات المرضعات كأشجار مقطوعة تُجبر على أن تُثمر من العدم. قلوبهن ممتلئة، لكن أثداءهن خاوية. يرضعن أبناءهن حبًا ووجعًا، ويأملن ألا يكون صوت البكاء بعد كل رضاعة.. البكاء الأخير.