بقلم: ملاك أبو عودة
موتٌ مُموهٌ في ظلال المساعدات: كيف تقتلنا الرحمة المزيفة؟!!
في غزة، لا يموت الإنسان فقط بسبب القصف المباشر، بل يُقتل تحت عجلات الشاحنات التي تحمل ما يُسمى "المساعدات الإنسانية". هؤلاء الذين ينتظرون المساعدة ليستطلبوا أبسط مقومات البقاء، لا يموتون بصواريخ ولا بدبابات، بل يُدهسون تحت زحام شاحنات الغذاء التي يفترض أن تكون ملجأً لهم.
هذه المأساة ليست سخرية فقط، بل فشل إنساني ذريع، فالموت هنا صار متنوعًا ومخادعًا. فمن الموت تحت عجلات الشاحنات، إلى الموت في طوابير الانتظار الطويلة، والموت بسبب الفساد، أو سوء التنظيم، تتعدد صور الموت في ظل الحصار والتدمير.
أولى صور هذا الموت، هي الموت تحت عجلات شاحنات المساعدات التي تتجمع حولها أعداد هائلة من المدنيين، فيُسحق الضعفاء وسط الزحام، بينما يتحول الطحين والمواد الغذائية من رموز للحياة إلى أدوات للقتل.
ثانيًا، ينتظر المواطنون لساعات طويلة تحت حرارة الشمس أو برد الشتاء القارس، ويتعرض الضعفاء للانهيار الصحي، فيموت البعض قبل أن يصل إليهم الطعام
ثالثا:الموت النفسي والروحي، حيث يقف الإنسان عاجزًا أمام مشاهد الموت والدمار، يرى أحبته يموتون، بينما تُلقى أمامه صناديق المساعدات التي لا تكفي لسد رمق الجوع أو تخفيف الألم، ما يؤدي إلى موت داخلي أعمق من أي خسارة جسدية.
رابعا :هناك الموت بفعل الفساد وسوء التوزيع، حيث تُسرق المساعدات أو تُحتكر، ويُترك المحتاجون يموتون جوعًا أو ينهارون تحت وطأة اليأس.
وأخيرًا، الموت الناتج عن غياب التنظيم والرقابة في مراكز التوزيع، مما يؤدي إلى حدوث تدافع أو فوضى تؤدي إلى سقوط ضحايا.
هذا الموت المتعدد الأوجه يؤكد حقيقة مؤلمة: أننا نموت في ظلال "الرحمة" التي لا ترحم.
أما السؤال الأزل الذي يتردد دوماً: "أين الله؟"، فهو ليس سوى وجع ينبعث من رؤية المجازر اليومية المقنّعة، والانقلاب القيمي الذي يسمح بأن يصبح القاتل "راعياً للإنسانية" ويمنح من داس على الأرواح تصريحًا لتقديم المساعدات.
الولايات المتحدة، التي وقّعت مؤخرًا صفقات أسلحة مع الاحتلال، ترسل اليوم شحنات "مساعدات" تحمل اسم الإغاثة، ليصبح الغريب أن يدفع القاتل ثمن "الرحمة" على دماء ضحاياه.
أولئك الذين ماتوا لم يطلبوا رفاهية أو كماليات، فقط طلبوا البقاء على قيد الحياة، خبزًا وماءً وأملًا.
في انتظارهم الطويل الذي لا ينتهي، ينتظرون العالم أن يتحرك، وأن تتحقق العدالة، ولكن ما يصلهم هو المساعدات متأخرة أو معيبة، وما يرافقها من مآسٍ.
من المؤلم أن يموت الإنسان على يد من يدّعي إنقاذه، أن تُعرض صور المساعدات الأميركية بينما تُنشر صور الموتى على نفس الأرض.
في غزة، يموت الناس لأنهم فلسطينيون، ولأنهم متمسكون بالحياة رغم كل القسوة، وهذا التمسك يشكل جريمة بحد ذاته.
المشهد يتكرر، وبوجه أكثر وحشية، حيث تتحول مراكز التوزيع إلى ساحات فوضى، ويُقتل العشرات بسبب سوء التنظيم، ثم تخرج بيانات رسمية تطلق كلمات مثل "حدث تدافع"، و"نعمل على تحسين التوزيع"، و"نشعر بالقلق"، وهي كلمات بلا وزن في وجه المأساة.
هذه ليست مجاعة فحسب، بل إهانة منظمة، وفشل ذريع في حماية الكرامة الإنسانية.
المساعدات لا تمحو الألم ولا تُطفئ نار القصف، ولا تُنسينا أن هناك من قتلنا صباحًا ثم رمى لنا كيس طحين مساءً.
كل من فقد حياته هنا، فقدها جائعًا، فقيرًا، مهانًا، لكن محافظًا على كرامته حتى أنفاسه الأخير
نحن لا نريد صناديق المساعدات فقط، بل نريد ضميرًا حيًا، نريد ألا نموت في طريقنا إلى رغيف الخبز، ونريد أن يتوقف السؤال الموجع: "أين الله؟"، لأن الجواب واضح؛ اللعنة ليست في غيابه، بل في الحضور القاتل.