الاستقرار والترحال

"الاستقرار والترحال"
عبد الهادي شلا
أن يقع الفنان فريسة للأيام تتقاذفه هنا وهناك وتلقي به في أماكن لم يفكر فيها يوما فإن هذا لهو الهَـمُّ الكبير.
الفنان بطبيعة تكوينه يلتقي فيه الإنسان والمبدع ولكل صفة منهما مقوماتها في الوقت الذي تتشابك وتمد كلاهما حاجة الفنان من المشاعرالإنسانية ومن ملكة الإبداع الذي يميزه عن غيره عمن يعيش بينهم ويعرفونه بصفاته الخاصة والعامة.
أحدثكم عن تجربتي الخاصة في التنقل والترحال ليس لأنني أعشق هذا ولكنني في كل مرة من المرات السبع كنت مُكرهـًا تحت ضغط لم يمنحي فرصة التفكير أو التردد فيكون الرحيل واستبدال المكان!!.
وأكثر ما يهمني هنا ليس ترحالي مع أسرتي وتبدل المجتمع علينا ولكن الأهم بالنسبة لي هو الترحال مع هذا العدد الكبير من اللوحات والأوراق والكتب وأدواتي الخاصة التي كان ومازال لها دورا هاما فيما أعطي من رسم أو كتابة وفيها الكثير جدا من التفاصيل لكل مرحلة وتوثيق لمواقف ولقاءات مع شخصيات فنية وأدبية عربية وأجنبية مؤثرة التقيتهم.
كان أول محترف للرسم الخاص بي مع بداية السبعينيات من القرن الماضي حيث كان صومعتي التي تفتحت فيه بصيرتي على عالم الفن وأسراره بعد تخرجي مباشرة وأتيح لي فرصة الخلوة بنفسي ساعات طويلة باحثا ومفكرا في جديد يميزني عن الفنانين الأخرين في تلك الفترة فكان هذا المُحترف فضاءا رحبا يلتقي فيه الفنانون لرسم المشروع الفني الذي كانت بوادره تتضح قليلا تم دعمها بمعارض محلية وأخرى عربية مميزة لم تتعدى المعرضين ولكنهما وضعا أسس متينة لحركة تشكيلية عربية سرعان ما اصطدمت باختلاف سياسات الدول التي انعكست على عطاء الكثيرين وأختفى أخرين تحت ضغط الحاجة.
التنقل والترحال قدر أصاب الفنان الفلسطيني على وجه الخصوص في كل مكان استقر فيه فلم يكن يوما يشعر بأنه مستقر بل لديه تلك القناعة بأنه عائد إلى وطنه مهما طال الزمن وأنه لابد أن يُنتج وينصهر في المجتمع الفني العالمي ليثبت أنه من شعب له جذور وحضارة وعليه واجب ترسيخ جذوره في أي مكان يستقر فيه مع الأخذ في الاعتبار أنه لابد أنه عائد بكل ما أبدع من أعمال فنية أو كتابات أو اي نوع من الإبداع وهي كثيرة أوجد المبدع الفلسطيني لنفسه مكانا بارزا فيها وليس هذا بصعب التأكد منه فهو متاح ونتعامل معه يوميا.
صعوبة التحدي الذي واجهته منذ هجرتي إلى كندا كانت في أن يكون لي مكان بين الفنانين في مجتمع لا يعرفني وله مواصفات مغايرة واهتماماته مختلفة فالقضايا الفنية يتم النظر لها من زاوية أخرى غير التي نتعامل معها ولكن هذا لم يكن مستحيلا التغلب عليه والوصول بما حملته إلى التأقلم مع الوضع الجديد مع الأخذ في الاعتبار بعض الصدمات التي تغلبت عليها بحكم تجربتي السابقة مما سهل القرب من فنانين مميزين ومشاركتي في معارضهم حين حققت فوزا لفت الأنظار إلى أعمالي... هذا الاختراق فتح بابا مواز لتجربتي التي قمت عليها قبل الهجرة .
التحدي الذي بدأنا حديثنا عنه وهو "الاستقرار والترحال" ..كان ملازما لي لسنوات حيث تنقلت عدة مرات وها أنا اليوم أجد صعوبة في الانتقال للإستقرار وأنا أعيد فك جمع اللوحات والكتب والأدوات التي بعضها عمره زاد عن الستين عاما وكلما هممت باقناع نفسي بأن هذا يجب تمزيقه كلما زاد النزف الحاد في القلب ورفضه العقل ذلك أن الخوف من المجهول وما ستؤل إليه هذه الأعمال التي سجلت مراحل فنية و وطنية واحتماعية وفلسفية هذا الخوف هو الذي يطارد كل فنان فلسطيني في الشتات في غياب الراعي الحقيقي للإبداع رغم كل ما تضج به وسائل الإعلام الذي في أكثره شعارات تثير العواطف لكنها لا تحفظ إرثا.!!؟
وسيبقى الترحال قدرا محتوما ونحن نشاهد ونسمع ما يتم رسمه والتخطيط له لتزداد رقعة الشتات وتتسع المساحات لمزيد من الترحال ويبقى الإستقرار الذي يتمناه المبدع أملا وحلما وسط كوابيس بلا ملامح !!!

 

البوابة 24