غزة/ مرح الوادية:
في سوق الصحابة وسط مدينة غزة، كانت أحلام عبيد تمسك بيد طفلتها الصغيرة، تحدق في صفوف العلب المعدنية التي تلمع تحت الشمس. سألت عن سعر الجبن المُصنّع، وهي تعرف أن ما في جيبها لا يكفي نصفه. حاولت أن تقنع ابنتها بأن تشتريه حين تنخفض الأسعار، لكن الصغيرة انفجرت بصوت مكسور: "كل الناس اشترت جبنة وسكر.. ونحن لا".
في تلك اللحظة، شعرت أحلام أن قلبها ينهار بصمت. حبست دموعها، وسارت مبتعدة، تخفي عينيها عن أعين العابرين الذين يعرفون أن عودتها إلى خيمتها تعني أنها لم تشتر شيئًا.
قبل الحرب، لم تكن تعرف هذا النوع من الحرمان. بيتها في غزة كان عامرًا بالخضروات والفواكه والأجبان واللحوم. زوجها، العامل في أحد المصانع، كان يحقق لهم حياة كريمة، يلبي طلباتها وطلبات أبنائها الثلاثة. لكن اليوم، بعد إصابته وتوقفه عن العمل، أصبحت حياتهم معلقة بدعوات تصل السماء، تنتظر معجزة في هيئة كيس دقيق أو علبة حليب.
في السابع والعشرين من يوليو الماضي، أعلنت "إسرائيل" أنها سمحت بدخول المساعدات الإنسانية. لكن على الأرض، كان المشهد يقول العكس؛ الشاحنات القليلة التي تدخل "بالقطارة" لا تكفي لسد جوع مليوني إنسان. الفوضى تعم أماكن التوزيع، والشحنات غالبًا لا تصل إلى مخازن المنظمات الدولية بسبب منع قوات الاحتلال لمرافقة فرق التأمين، ما يتركها فريسة للنهب، لتعود وتُباع بأسعار تعجيزية في الأسواق.
قبل الحرب، كانت غزة تستقبل نحو 600 شاحنة يوميًا. الآن، لا يزيد العدد على 80 إلى 100 شاحنة، أي ما يعادل 15% فقط من الاحتياجات الفعلية. هذه الكميات الضئيلة تتوزع بين الشمال والجنوب، لكن معظم الناس لا يرون منها شيئًا. أما في السوق، فقد صار سعر الجبن المعلب "فيتا" 14 شيكلًا، وكيلو الطحين 25، والسكر 45، أي عشرة أضعاف سعره قبل الحرب، وأحيانًا أكثر. والأسعار تختلف باختلاف طريقة الدفع، نقدًا أو عبر التطبيق البنكي، وسط أزمة سيولة خانقة.
محمد حسنين، أب لثمانية من حي الشجاعية، شعر بمرارة لا توصف حين جاءه أطفاله ليخبروه أنهم شاهدوا السكر في السوق. قال: "كان في جيبي 20 شيكلًا فقط، رفض أحد الباعة أخذها لأنها قديمة ومهترئة. حتى لو قبلها، فهي لا تكفي لنصف كيلو سكر". لم يستسلم. قصد منطقة زيكيم شمالًا، وسط الرصاص الذي خدش يده، وانتزع كيس طحين من بين الفوضى، وسار به خمسة كيلومترات تحت شمس حارقة. "شعرت أنني بطل خارق، وأطفالي قالوا لي ذلك فعلًا"، يضيف بابتسامة هزيلة. لكنه اضطر للاستدانة ليشتري السكر، وفي المساء جلس يشاهدهم يشربون أول كوب شاي محلى منذ شهور، ضحكاتهم كانت أجمل ما حصل عليه وسط هذه المجاعة.
وفي الجنوب، حاولت آية شاهين أن تغتنم فرصة دخول بعض السلع. أحد أقربائها أرسل لها 200 دولار، لكنها بعد "التكييش" لم تجد في يدها إلا 180 شيكلًا، أنفقتها كلها على بعض الخضار، وكيلو دقيق، وقليل من السكر والجبن. "في الأيام العادية، لم تكن تكلف هذه المشتريات أكثر من 20 شيكلًا"، تقول بحسرة.
برنامج الغذاء العالمي يؤكد أن عشرات الشاحنات تصل غزة يوميًا، لكن معظم الناس لا يحصلون على شيء منها. الجوع يزداد قسوة، وحليب الأطفال نادر، والمساعدات قليلة، وآلية توزيعها شبه معطلة، والأسعار فوق طاقة أي أسرة. أمام هذا المشهد، يبدو أن التحسن بعيد، بينما غول المجاعة يبتلع الناس على مرأى من العالم كله.. بلا أنين مسموع، لكن بأصوات بطون فارغة تروي الحكاية.