غزة/ سندس محمدين:
تحت الإبادة، كانت مها زياد تظن أن الموت بالقصف هو أكثر ما يمكن أن يرعبها، لكن مع تفاقم أزمة المجاعة، وجدت نفسها أمام خوف من نوع آخر، حين بدأت تلاحظ علامات تقوّس في ساقي طفلتها "هديل" البالغة من العمر عامًا ونصف، ونقصًا في وزنها، وانخفاضًا حادًا في الكالسيوم، كما أكد الأطباء.
هديل ولدت في فترة الحرب، داخل أحد مراكز الإيواء وسط غزة، على وقع الصواريخ التي كانت تضيء السماء، تقول أمها: "كنت أصرخ من الخوف والتعب، شعرت أنني سأفقدها لكنني لم أستسلم، قلت هذه البنت التي قاتلت من أجل الحياة، سأقاتل كل فرص الموت من أجلها وأجعلها تعيش".
في رحلتها اليومية للبحث عن غذاء "جيد" لطفلتها، وجدت يومًا بائعًا يبيع البيض. فرحت، لكنها شعرت بغصة حين علمت أن ثمن البيضة الواحدة 30 شيكلًا (قرابة 8 دولارات)، فتركتها وسارت، مكتفية ببعض المعلبات.
وفي يومٍ لا تنساه، صادفت على "فيسبوك" منشورًا لصديقتها تنصح فيه باستخدام "البيض المجفف" للأطفال، فكان الخيار الوحيد في ظل انعدام وجود البيض.
البيض المجفف، أو مسحوق البيض، منتج غذائي يُصنع من البيض الطبيعي بعد تجفيفه بطريقة خاصة تزيل الماء منه، ليصبح مسحوقًا ناعمًا يمكن إذابته في الماء واستخدامه كبديل للبيض الطازج.
في غزة، 93% من مزارع الدجاج دُمّرت بالكامل، فيما توقفت المزارع الباقية عن الإنتاج، ونفقت عشرات الآلاف من الطيور تحت القصف، وفق المرصد الأورومتوسطي لحقوق الإنسان.
تقول مها: "لم أتردد بسؤال صديقتي عن مسحوق البيض: من أين أحصل عليه؟ كم سعره؟ كيف يستخدم؟ وكيف يتقبله الأطفال؟" تحمسَت، وباعت قطعًا منزلية انتشلتها من تحت ركام بيتها لتدبر ثمنه، ثم اشترت 50 غرامًا بـ20 شيكلًا (5 دولارات)، أعدت منه طبقًا غريبًا على طفلتها، توقعت أن ترفضه، لكن الصغيرة بكت حين انتهت الوجبة وطلبت المزيد.
لم تكن هديل وحدها في الحاجة. في ظل سياسة التجويع الإسرائيلية، يعاني مليونا إنسان من انعدام الخيارات، محرومين من أطعمة أساسية كالبيض واللحوم والدجاج، بعد شهور من الاعتماد على فتات المعلبات.
أحمد فرحات، خمسيني مصاب بالسكري، وجد مسحوق البيض على بسطة في شارع اليرموك بسعر مرتفع نسبيًا، فاشترى 5 غرامات بـ10 شواكل (دولارين ونصف). يقول: "طعمه يشبه بياض البيض الطبيعي، لكن رائحة الزفر فيه واضحة. رغم ذلك، توفره في هذه الظروف جيد، ولن أتردد بشرائه مجددًا إذا سمحت ظروفي".
وعن احتمالية الضرر، يرد بابتسامة مُرة: "تحت الإبادة أكلت أطعمة منتهية الصلاحية وشربت مياه ملوثة ونمت جائعًا عشرات المرات.. ربما يكون البيض المجفف أقل هذه الأضرار، وإن كانت له آثار جانبية".
خبيرة التغذية نبيلة وادي تؤكد أن البيض المجفف يتوفر بعدة أشكال، وهو بديل عملي في الصناعات الغذائية، غني بالبروتين الكامل، ويدعم جهاز المناعة لاحتوائه على فيتامين B12، كما يمد الجسم بالطاقة ويعزز صحة العظام. لكنها تحذر من سلبيات محتملة، مثل ارتفاع الكوليسترول والصوديوم، ما قد يضر مرضى الضغط، داعية هؤلاء إلى متابعة حالتهم الصحية والتوقف عن تناوله إذا تفاقمت الأعراض.
أما أحمد أبو كميل، موزع البيض المجفف في غزة، فيوضح أن هذه المادة تُستخدم في المخبوزات والكيك منذ 20 عامًا، على غرار الحليب المجفف، وكان يتم استيرادها من هولندا. يقول: "يمكن خلط 50 غرامًا مع نصف لتر ماء، ما يعادل 20 بيضة، بشرط حفظه بعيدًا عن الشمس والرطوبة، ليبقى صالحًا حتى 10 سنوات من تاريخ الإنتاج".
ويضيف: "الإقبال ارتفع بشكل ملحوظ خلال حرب الإبادة، خاصة أن كميات كبيرة أُدخلت قبل العدوان، مما ساعد في سد جزء من الحاجة الغذائية في لحظات حرجة".