خطاب النوايا الأوروبي: أزمة مالية متفاقمة ومصادرة القرار السيادي الفلسطيني

 بقلم: المحامي علي أبو حبلة

خطاب النوايا الذي وقّعته الحكومة الفلسطينية مع الاتحاد الأوروبي لم يكن الحل المنشود للأزمة المالية الفلسطينية، بل أضاف أبعاداً جديدة من التعقيد وأدى عملياً إلى تكريس التبعية وتقييد القرار السيادي. فمنذ البداية، جرى الترويج لهذا الخطاب باعتباره إطاراً لإنقاذ المالية العامة وتحسين الإدارة وتعزيز الشفافية والمساءلة، لكن التجربة أثبتت أنه لم يُحدث نقلة نوعية في الوضع المالي، ولم يمكّن الحكومة من الإيفاء بالتزاماتها تجاه موظفيها أو تجاه الخدمات الأساسية للشعب الفلسطيني. على العكس، استمرت الأزمة المالية وتعمقت بسبب استمرار إسرائيل في اقتطاع أموال المقاصة واحتجازها، وبسبب الشروط الأوروبية التي ربطت أي دعم مالي بسلسلة إصلاحات صارمة لم تُراعِ واقع الاحتلال وظروف الشعب الفلسطيني. الخطاب حوّل الدعم الأوروبي من أداة دعم للصمود الوطني إلى أداة ابتزاز سياسي واقتصادي، حيث أصبح استمراره مشروطاً بتقليص الإنفاق العام، وضبط التحويلات الطبية، وفرض قوانين وإجراءات تُثقل كاهل الحكومة والمواطنين على السواء. وهذا يتعارض مع القواعد الأساسية للقانون الدولي، إذ تتحمل القوة القائمة بالاحتلال وفق اتفاقية جنيف الرابعة المسؤولية الأساسية عن توفير احتياجات السكان، بينما يُعفى الاحتلال عملياً من مسؤولياته ويتم تحميلها للحكومة الفلسطينية التي لا تمتلك السيادة الكاملة على أرضها وحدودها ومواردها. إن ما زاد الوضع سوءاً أن خطاب النوايا جاء في وقت تراجعت فيه قدرة السلطة الفلسطينية على تعبئة موارد داخلية كافية، بسبب القيود الإسرائيلية المفروضة على الاقتصاد الفلسطيني، وإحكام السيطرة على المعابر والحدود، وتقييد حركة الأفراد والبضائع، وهو ما جعل الحكومة الفلسطينية عاجزة عن إيجاد بدائل حقيقية تقلل اعتمادها على المساعدات الخارجية. وبدلاً من أن يكون خطاب النوايا مدخلاً لتمكين الحكومة من إدارة أزمتها بفعالية، أصبح إطاراً يكرس هشاشتها ويقيد خياراتها الاستراتيجية. من منظور استراتيجي، يمكن القول إن أخطر تداعيات خطاب النوايا تكمن في تآكل القرار السيادي الفلسطيني. فربط الدعم الأوروبي بتنفيذ إصلاحات محددة وفق جدول زمني لا يأخذ في الحسبان السياق السياسي والاقتصادي الخاص بفلسطين، جعل من الاتحاد الأوروبي طرفاً مقرراً في تفاصيل السياسات الداخلية الفلسطينية. هذا التدخل المباشر أضعف الثقة الشعبية بالحكومة، التي بدت وكأنها تدار بمنطق الوصاية لا بمنطق القيادة الوطنية الحرة، وهو ما أدى إلى تعميق الفجوة بينها وبين الشارع الفلسطيني الذي يطالب باستعادة القرار المستقل والتمسك بالثوابت الوطنية بعيداً عن إملاءات الخارج. لقد أصبح واضحاً أن خطاب النوايا لم يحل الأزمة المالية، ولم يوقف مسلسل العجز المزمن، ولم يضمن انتظام الرواتب أو تحسين الخدمات، بل ساهم في إطالة أمد الأزمة عبر فرض التزامات جديدة دون معالجة جذرية لسببها الرئيسي المتمثل في الاحتلال الإسرائيلي. والنتيجة أن الحكومة الفلسطينية تجد نفسها اليوم في مأزق مركب: فهي عاجزة عن تلبية احتياجات شعبها، ومقيدة بشروط المانحين، ومسلوبة القرار السيادي في ظل استمرار السيطرة الإسرائيلية على الموارد. من هنا، فإن المخرج الاستراتيجي لا يكمن في التكيف مع خطاب النوايا أو الاستسلام لشروطه، بل في استعادة زمام المبادرة الوطنية. وهذا يقتضي أولاً إعادة صياغة العلاقة مع المانحين على قاعدة القانون الدولي والحقوق غير القابلة للتصرف للشعب الفلسطيني، وثانياً تحميل الاحتلال مسؤولياته القانونية والمالية كاملة بوصفه القوة القائمة بالاحتلال، وثالثاً بناء استراتيجية اقتصادية وطنية تقلل التبعية وتفتح آفاقاً للاستثمار المحلي وتعبئة الموارد الداخلية. فبدون استعادة القرار السيادي والتمسك بالثوابت الوطنية، ستبقى الحكومة الفلسطينية رهينة لأجندات خارجية تزيد من تعقيد الأزمة وتعمق الشرخ بين الشعب وسلطته، وهو ما يشكل خطراً استراتيجياً على المشروع الوطني الفلسطيني برمته.

البوابة 24