غزة/ البوابة 24- جمال موسى:
على سرير العناية المركزة في مستشفى الدكتور عبد العزيز الرنتيسي للأطفال غربي مدينة غزة، ترقد الطفلة لارا البطران، ذات الثمانية أعوام، تتنفس بصعوبة عبر أجهزة تبقيها على قيد الحياة. تكاد همساتها لا تُسمع وهي تحاول أن تودّع أمها التي تغادر بين وقتٍ وآخر، لتطمئن على أشقائها الأربعة. كأنها تقول بعينيها ما لا تقوى حنجرتها على لفظه: "ابقِي هنا، لا تتركيني".
لارا لم تكن سوى طفلة سليمة تركض في أزقة المخيم، قبل أن يستيقظ جسدها ذات صباح عاجزًا عن الحركة، ثم ينهار أمام نوبة قيء متواصل. منذ ذلك اليوم، لم تغادر العناية المركزة، لتدخل وأمها رحلة مريرة مع مرض غامض يفتك بالأعصاب ويشل الأجساد: الشلل الرخو الحاد.
هذا المرض، النادر عالميًا، وجد له موطئ قدم في غزة المحاصرة، مهددًا حياة الأطفال والبالغين معًا. في ظل حرب لا تهدأ، ونظام صحي يتهاوى، وأدوية غابت كما غابت حتى أبسط أدوات التشخيص. يصفه الأطباء بأنه أحد أشكال متلازمة "غيلان باريه"، التي يهاجم فيها الجهاز المناعي الأعصاب الطرفية، يبدأ بضعف في الأطراف، ويتطور سريعًا ليصل إلى عضلات التنفس.
والدة لارا، منار البطران، تحمل ما لا يُحتمل. تقول وهي تراقب جسد طفلتها الهزيل وقد انخفض وزنها من 25 إلى 13 كيلوغرامًا فقط: "قبل الحرب كانت بصحة جيدة، أما اليوم فهي مشلولة تمامًا".
لم يقف الألم هنا؛ إذ فقدت منار زوجها قبل عام، حين سقط صندوق مساعدات من طائرة فأرداه قتيلًا، لتبقى وحدها تعيل خمسة أطفال، أصغرهم –عايدة– التي لم تتجاوز العامين والنصف، وتعاني بدورها من ضمور دماغي متفاقم، زاده غياب العلاج وندرة الغذاء سوءًا. بوجهٍ غارق بالحزن تقول الأم: "أريد فقط أن ترى لارا وأختها الشمس، أن تمشيا وتلعَبا.. لقد سرق الحصار طفولتهما".
الأطباء يواجهون الكارثة بأدوات منهكة. الدكتور محمد حجو، رئيس قسم العناية المركزة في المستشفى، يوضح أن المرض عالميًا نادر جدًا، لا تتجاوز نسب الإصابة فيه حالة أو حالتين بين كل مئة ألف شخص، بينما في غزة رُصد خلال شهرين فقط نحو 60 إصابة بين البالغين، و40 بين الأطفال.
يضيف: "المختبرات المركزية دُمّرت، لا تتوفر لدينا فحوصات متخصصة ولا أجهزة تصوير، نعتمد فقط على التشخيص السريري والتاريخ المرضي". أما العلاج، فيحتاج أدوية نادرة مثل تلك المخصصة لغسيل البلازما، لكنها غائبة تمامًا.
ويتابع: "نضطر لاستخدام وسائل بدائية، ما يزيد من خطر الوفاة".
الغذاء –المفقود بدوره– هو المفتاح الآخر للتعافي، إذ يحتاج المرضى إلى نظام صحي متكامل. لكن أم لارا تجيب بمرارة: "لا نجد حتى الخبز أحيانًا، فكيف يمكن أن تتغذى ابنتي؟".
ويحذر الدكتور حجو من موجة إصابات جديدة إن استمرت الحرب، مشيرًا إلى تسجيل ثلاث حالات في يوم واحد الشهر الماضي.
النسب قاسية: بين 6 و8% من المصابين يموتون، والباقون يواجهون إعاقات دائمة. ومع انعدام الغذاء والدواء، تتضاعف المخاطر، فيما يواصل الأطباء والعائلات مناشدتهم: أدخلوا الأدوية، وأجهزة التشخيص، والحليب، والحفاضات، والمياه النظيفة، ولو بالحد الأدنى لإنقاذ حياة أطفالٍ يذبلون يومًا بعد يوم.
لم يعد الشلل الرخو الحاد في غزة مجرد مرض نادر، بل مرآة لما فعلته الحرب والحصار بجسد مجتمع كامل. أطفال كانوا يملؤون الدنيا ضحكًا وحركة، صاروا أسرى أسلاك وأجهزة، يتنفسون بصعوبة، فيما صرخات أمهاتهم تلاحق العالم: "أوقفوا الحرب، أعيدوا الحياة، أنقذوا الأطفال قبل أن يُسرق مستقبلهم كله".