غزة وفيتنام: استلهام لتجربة وجلب للوهم

بقلم د. إياد أبو الهنود 

في الأيام القليلة الماضية ساقني أحد اللقاءات مع شخصيات عامة إلى نقاش حول ما أستحضره في كتاباتي من تجارب لشعوب ودول، ومحاولات إسقاطها على الحالة الفلسطينية؛ استُحضر في الحديث أمثلة من اليابان وألمانيا ورواندا وجنوب أفريقيا وغيرها، وتوقفنا عند غياب تجربة فيتنام عن بعض مقالاتي، رغم أنها شكّلت واحدة من أبرز المحطات في تاريخ مقاومة الشعوب للاستعمار والاحتلال.

لقد اعتمد الفيتناميون على استنزاف القوة الأميركية، ودفعها إلى التورط في حرب طويلة الأمد أنهكت قدراتها البشرية والاقتصادية، وألحقت بها ثمنًا أخلاقيًا فادحًا أمام الرأي العام العالمي بعد انكشاف حجم المجازر التي ارتُكبت بحق المدنيين، هذه العوامل مجتمعة ساهمت في النهاية في انسحاب الولايات المتحدة، وتحوّل التجربة الفيتنامية إلى نموذج ملهم في أدبيات حركات التحرر.

وفي الحالة الفلسطينية، كثيرًا ما يُستحضر هذا النموذج، خاصة في ظل حرب الإبادة الجماعية التي يتعرض لها الشعب في قطاع غزة، حيث تميل القوى المسيطرة هناك إلى محاكاة تجربة فيتنام، وكأن تكرار الأسلوب سيقود بالضرورة إلى النتائج نفسها: نصر مؤزر، وتثبيت للسيطرة، بل وربما قيادة للمشروع الوطني بأسره.
لكنّ العلوم السياسية تقدّم لنا نظرية واضحة في هذا المجال: المقاربات بين تجارب الشعوب لا تُبنى على التشابه السطحي أو الأماني، بل على قراءة دقيقة للسياقات المختلفة – جغرافياً، ديمغرافياً، اقتصادياً، وسياسياً – بما يضمن أن تؤدي تلك المقاربات إلى نتائج مماثلة أو أفضل، لا إلى نتائج كارثية معاكسة.

فالخلل يبدأ حين نغفل أن لكل تجربة شروطها التاريخية والموضوعية، وننجرّ وراء مقارنات عاطفية قد تُدخلنا في دائرة الإنكار، أو تضعنا في مسار تهلكة نهى عنه النص القرآني بقوله تعالى: «ولا تلقوا بأيديكم إلى التهلكة»؛ إن استجلاب وهم الانتصارات السريعة، أو الاعتقاد بأن تكرار سيناريوهات الآخرين سيمنحنا بالضرورة نفس النتائج، يضاعف من أثمان الخسارة، ويجعلنا ندفع أثماناً بشرية وسياسية باهظة.

إن استحضار التجارب العالمية في التحرر ليس غاية بحد ذاته، بل وسيلة لفهم تعقيدات مسارنا الوطني وصياغة رؤية أكثر واقعية، غير أن إسقاط تجربة فيتنام، أو غيرها، على الحالة الفلسطينية بمعزل عن اختلاف السياقات، لن يؤدي إلا إلى إعادة إنتاج الوهم، واستجلاب المزيد من المآسي لشعبنا.

كما أن المقاربة الدقيقة تكشف أنّ التجارب لا تُستنسخ آليًا، فالتجربة الفيتنامية نمت ضمن ظروف مختلفة: مساحة جغرافية واسعة، عمق ديمغرافي كبير، موقع استراتيجي في قلب صراع دولي، وأمن غذائي واقتصادي مكّن الشعب من الصمود رغم سنوات الحرب، هذه العناصر لا تتوافر في الواقع الفلسطيني الراهن، وهو ما يجعل إسقاط التجربة الفيتنامية على غزة أمرًا محفوفًا بالمخاطر، بل ويقود إلى أوهام غير قابلة للتحقق.

وعليه، فإن الكلفة الأخلاقية والسياسية لأي خيار لا يمكن أن تُقاس إلا بميزان المصلحة العليا لشعبنا، وبما يضمن صموده وحياته وكرامته. 

المطلوب اليوم ليس التأطير والتنظير للإنكار والتهرب من مسؤولية الواقع الكارثي، بل صناعة واقع جديد يستلهم من التجارب الإنسانية ما يخدم مشروعنا الوطني، دون أن يزجّ بنا في التهلكة، ذلك هو جوهر المسؤولية التاريخية التي سيحكم بها علينا شعبنا أولاً، ثم العالم بأسره.

وقد يكون الدرس الأهم المستفاد من فيتنام ليس في تقليد أدواتها العسكرية، بل في كيفية تحويل الإرادة الشعبية والوطنية إلى مشروع جامع قادر على فرض نفسه، تلك هي القيمة الحقيقية التي يمكن أن تُفيد الحالة الفلسطينية اليوم: بناء مشروع وطني شامل يحفظ الإنسان قبل الأرض، ويصنع الأمل بدل إعادة إنتاج الوهم.

البوابة 24