غزة/ البوابة 24- صابرين الحرازين:
لم تعد الطفولة في غزة كما يعرفها العالم، بل غدت حكايات موجعة تختصر حجم المأساة. ومن بين آلاف القصص، تبرز قصة الشقيقتين ماريا (11 عامًا) وأنسام (8 سنوات) معاذ ريحان من جباليا، اللتين خسرتا العائلة والبيت معًا، لتتحول الأولى إلى طفلة كفيفة، بينما صارت الثانية بعكازيها المثقلين بالجراح سندًا ومعلمة ورفيقة لأختها.
بحرقة قلب وبغصّة في صوتها تقول ماريا: "أتمنى أن أرى حتى أتمكن من الدراسة… قبل الإصابة كنت اتمنى اكمال دراستي وأن اصبح طبيبة، الآن أمنيتي أن أرى".
بهذه الكلمات تبدأ الطفلة في سرد حكاية أثقل من عمرها الصغير، إذ فقدت في غارة جوية واحدة كل شيء: الأب والأم والإخوة، ومعهم الخالان والخالة والعمة وابنها. وكأن الفقد وحده لا يكفي، فقد سرقت الحرب أيضًا نور عينيها، وأظلمت الدنيا أمامها.
غارة واحدة سرقت العائلة والبيت والكتب
تعود ماريا بذاكرتها إلى يومٍ تتمنى لو استطاعت أن تمحيه تمامًا. تقول: "طلبوا منا مغادرة الحارة لأن الجيش سيقصف برج الناعوق والخضري. شعرنا بالخوف وخرجنا برفقة أهلي، فجأة جاء أحد من الخارج وأخبره الجيش بأن نعود لمنازلنا. لم نكد ندخل حتى وقع الانفجار الذي أخذ مني أغلى ما أملك: عائلتي، بيتنا، كتبي ودفاتري".
كان فقد الدفاتر والكتب بالنسبة لماريا فقدًا آخر، لأنها كانت مرآتها الصغيرة التي تعكس حلمها بارتداء المعطف الأبيض يومًا ما.
من دفاتر المدرسة إلى خيمة النزوح
اليوم، صار عالم ماريا أسود بالكامل. لم تعد ترى شيئًا في خيمة صغيرة في مخيم الشيخ رضوان، حيث تعيش مع جدها وجدتها وأختها الصغرى أنسام (8 سنوات) الناجية الوحيدة من العائلة.
أنسام، رغم طفولتها، تحولت إلى "معلمة" و"عكاز" لأختها، تمسك بيدها وتقودها بين الخيام، وتصف لها تفاصيل المخيم ومحيطه لتعوّضها عن البصر المفقود، وتحاول أن لا يبقى عالمها مظلمًا بالكامل.
أنسام.. سند مثخن بالجراح
لكن أنسام نفسها مثقلة بالجراح، تحمل في قدميها بلاتينًا يقيّد حركتها وتعتمد على عكازين ثقيلين. ومع ذلك، تصرّ على أن تكون سندًا لشقيقتها. تقول ماريا: "أختي تجعلني أشعر بالقوة… أكثر شيء بيخفف عني الحزن إنها بقيت من رائحة أمي وأبي".
تتجلى معاناتهما في تفاصيل صغيرة: حين تحتاج ماريا إلى الذهاب للحمام، تكون أنسام هي من تمسك بيدها رغم ألمها. وحين يشتد العطش ليلًا، تزحف أنسام على الأرض نحو "الجالون" لتجلب لها الماء. طفلتان كانتا تستحقان أن تلعبا في ساحة المدرسة، لكنهما وجدتَا نفسيهما تصارعان الحرب والحياة، في محاولة لانتزاع ما تبقى من الطفولة المسلوبة.
ورغم إصابتها، تحاول أنسام أن تمنح أختها لحظات طفولة ضائعة. تلعب معها وتضحك لتبدد شيئًا من الحزن. تقول بصوت خافت: "أنا أريد أن استمر قوية من أجل أختي… لا اريد ان تشعر انها وحيدة". أما ماريا فتتشبث بخيط أمل رفيع في علاج يعيد إليها بصرها، ولو بعين واحدة.
ابتسامة رغم الشظايا… رسالة للعالم
ورغم وجهها المثخن بالشظايا، ترتسم ابتسامة على محيا ماريا، وهي توجه رسالة إلى العالم: "ما زال لدي أمل بأن أرى، حتى لو بعين واحدة… ساعدوني على العلاج قبل أن يتلاشى هذا الأمل".
ومع كل ما فقدتاه، ما زالت ماريا وأنسام تحلمان بما يفترض أن يكون طبيعيًا لكل طفلة في العالم: بيت آمن، مقعد دراسي، ولعبة لا تُنتزع من أيديهنّ تحت هدير الطائرات. في كل حركة من حركاتهما الصغيرة، يتجلّى ثِقل الحاضر ووطأة الغياب، لكن أيضًا قوة الحياة التي تتشبث بهما كخيط رفيع لا ينقطع. فهما، مثل آلاف الأطفال في غزة، يكبران قبل أوانهما، يختبران الفقد والخذلان العالمي، لكنهما ترفضان الاستسلام لليأس.
إن قصتهما ليست مجرد حكاية شخصية، بل شهادة حيّة على معاناة جيل كامل وحقّه المسلوب في الأمان. وبينما يواصل العالم صمته المدوّي، تواصل الطفلتان بعينيهما الواسعتين توجيه السؤال الأخلاقي الأكبر: أي مستقبل ينتظر غزة حين تُدفن الطفولة تحت الركام؟ ومع ذلك، يبقى في كل ابتسامة تُولد رغم الجراح، وفي كل محاولة للتمسّك بلعبة أو ذكرى، وعدٌ خفي بأن الحياة أقوى من الموت، وأن الطفولة وإن جُرّدت من ملامحها ستظل تطالب بحقها في البقاء.