غزة/البوابة 24 – ملاك أبو عودة
في غزة، حيث الحصار يخنق الهواء، والحرب تحاول أن تطمس الملامح، يخرج الفن من بين الركام كما يخرج الورد من بين الصخور. هنا، لا يكون الفن لوحة عابرة أو لحناً سريعاً، بل يتحول إلى أسلوب حياة وفكر عميق يختاره الفنان ليتحدى الخوف، ويعيد بناء المعنى وسط الخراب.
الفن في غزة ليس زينة للجدران أو ترفاً للحياة، بل هو حاجة ملحّة مثل الخبز والماء. هو لغة الروح حين تضيق بها الكلمات، ومرآة تصوّر ما يعيشه الناس، لكنه في الوقت نفسه نافذة تفتح على أفق أوسع من الحرب. كل رسمة، وكل أغنية، وكل لحن هو فعل مقاومة في وجه الموت، وطريقة يقنع بها الغزّي نفسه أن الحياة لا تزال ممكنة.
جداريات الذاكرة.. فن يشهد على الحرب ويوثق الجريمة
في شوارع غزة المدمّرة، تتناثر الجدران المتكسّرة وكأنها صفحات بيضاء تنتظر من يكتب عليها حكاية جديدة. هنا، يضع الفنانون ريشاتهم لتتحول الحجارة إلى لوحات، والركام إلى صور تحكي عن الألم والأمل معاً.
الفنان التشكيلي أحمد إياد وجد في الرسم وسيلته للبقاء. منذ طفولته كان يرسم، لكن الحرب الأخيرة غيّرت ما بداخله كثيراً وأعادت تعريف علاقته بالألوان. ويوضح: "الرسم بالنسبة لي لم يعد مجرد تفريغ للطاقة، صار طريقتي الوحيدة لأواجه هذا الخراب. كل جدار مهدّم هو مساحة جديدة أكتب عليها رسالتنا: أن غزة مليئة بالحب والحياة والروح والطاقة الإيجابية."
لوحات أحمد تحمل مزيجاً من الألم والأمل وتتحول إلى رسائل بصرية يخاطب بها العالم. ويعقّب قائلاً: "أؤمن أن موهبتي سبب كافٍ ليتفاعل العالم مع قضيتنا. حين يرى الناس وجوهاً مرسومة على جدران مهدمة، لعلهم يفهمون أن غزة لا تختصر في الحرب، وأنها قادرة على إنتاج حياة رغم الخراب."
الجيران والأطفال الذين يمرون أمام جدارياته يقفون قليلاً، يتأملون الألوان وكأنهم يعثرون فيها على نافذة صغيرة تضيء عتمة الأيام. بالنسبة لأحمد، هذا التفاعل البسيط يكفي ليشعر أن لوحاته تحقق غايتها: أن تذكّر الناس أن الحياة لا تزال تنبض حتى في أصعب اللحظات.
أنغام تتحدى القصف.. الموسيقى في قلب الحصار
في مخيم صغير بين عشرات الخيام، حيث تعب الأجساد واضح على الوجوه، يجتمع مجموعة من الأطفال والشبان ليعزفوا بأدوات متواضعة: عود قديم، دف متهالك، وأصوات تحمل ما لا تحتمل. وما إن يبدأ العزف حتى يتحول المكان إلى مسرح، والخيمة إلى مساحة فرح مؤقت، يلتف حولها الأطفال بملامح مرهقة لكنها تبتسم رغم الألم.
هؤلاء الأطفال هم أعضاء فرقة "طيور غزة تغني" التي أسسها الأستاذ أحمد أبو عمشة، الذي يرى في الموسيقى رسالة حياة. ويؤكد: "حين نعزف ونغني، نحن لا نقدّم عرضاً فنياً، نحن نثبت أن غزة قادرة أن تخلق الفرح من قلب الألم. صوتنا هو وعد للأجيال الجديدة أن هذا المكان يستحق أن يعيش."
وتستذكر الفتاة شهد حمد، إحدى أعضاء الفرقة التي تتعلم عزف العود والغناء: "نحن لا نغني للهروب من واقعنا، بل لنثبت أننا موجودون رغم كل شيء. صوت العود يغطي قليلاً على صوت القصف، ويذكّر الناس أن أرواحهم أوسع من كل هذا الألم والحصار."
الموسيقى هنا ليست ترفاً، إنها طقس حياة. ففي لحظة عزف جماعي، يتوحد المجتمع كله في جسد واحد يتنفس بالنغمة بدلاً من الصمت، ويتحول كل لحن إلى مساحة صغيرة من الحرية داخل حصار طويل.
الفن التشكيلي.. ريشة تحكي الحرب والحياة
من قلب الخيمة، حيث لا جدران صلبة ولا قاعات عرض فاخرة، صنعت الفنانة التشكيلية أسيل نسمان معرضها الخاص. جمعت قطع قماش وصنعت خيمة، وعلّقت عليها اللوحات التي تمكنت من إنقاذها من تحت ركام بيتها. وتروي أسيل:
"كنت في السابق أرسم أشياء مليئة بالبهجة: أطفال يضحكون، طيور تحلّق، وبيوت مليئة بالحياة. لكن الحرب غيّرتني، كما غيّرت لوحاتي. اليوم ريشتي ترسم الشهداء والجرحى والأسرى، لأن هذا هو وجعنا الحقيقي."
وترى أسيل أن موهبتها أصبحت مرآة للحرب: "حين أرسم وجهاً شهيداً أو أسيراً، أشعر أنني أكتب تاريخنا بالألوان. لا أستطيع أن أوقف القصف، لكن أستطيع أن أجعل العالم يرى ما نراه بريشتي وألواني."
معرضها البسيط وسط الخيمة لم يكن مجرد مساحة لعرض رسومات، فقد تحوّل إلى مكان يجتمع فيه الناس، يتأملون اللوحات ويجدون فيها صوتاً مكملاً لأصواتهم. لوحات أسيل تحولت إلى رسائل صامتة تقول: "نحن هنا… ونرسم الحياة حتى من قلب الركام."
الفن والإبداع.. فلسفة وجود ونافذة للبقاء
الفن في غزة ليس مجرد رسمة على جدار أو أغنية بين الخيام أو لوحة معلّقة على قماش خيمة. إنه فكر يواجه به الإنسان أعتى ظروفه، ولغة حياة تذيب الخوف وتبني الأمل. هو المرآة التي تعكس الجراح، لكنه في الوقت نفسه الضوء الذي يفتح نافذة نحو غدٍ ممكن.
المشترك بين هؤلاء جميعاً أن الفن بالنسبة لهم ليس هواية عابرة، بل وعي كامل وطريقة للعيش. هو تفكير يومي في كيفية تحويل الرعب إلى معنى، والدمار إلى فرصة للتعبير، والقلق إلى فعل إبداعي.
الفنان في غزة حين يضع لونه أو يعزف نغمة أو يخط لوحة، لا يفعل ذلك لتزيين الواقع بل ليعيد صياغته. فالفن هنا صوت يصر على أن يقول: "نحن أحياء رغم كل شيء."
كما يقول أحد الفنانين: "الفن ليس رفاهية، إنه الأكسجين الوحيد الذي يجعلنا نستمر."
في غزة، حيث تحاول الحرب أن تسرق كل شيء، يبقى الفن أعظم برهان على أن الروح لا تُهزم، وأن الألوان والموسيقى والريشة إبداع حي لا يموت، ما دام هناك إنسان يجرؤ أن يحلم.