غزة/البوابة 24 ـ انعام فروانة
في زاوية من غرفة مكتظة، تجلس أم شابة على أرضية باردة، تحتضن بين ذراعيها طفلتها الخديجة التي بالكاد تزن كيلو ونصف. عيناها متعبتان، ووجهها شاحب من أثر عملية قيصرية لم تنل بعدها راحة، بينما يدها اليمنى مرفوعة تحمل كيس محلول يتدلى فوق رأس الصغيرة، كأنها ترفع الحياة نفسها كي لا تسقط. حولها أصوات بكاء متقطع، وأجهزة تنبض بضوء خافت، وأمهات أخريات يفترشن الأرض، يتبادلن النظرات التي تقول كل شيء دون أن تنطق.
في هذا المشهد، لا شيء يشبه المستشفى سوى الألم، ولا شيء يشبه الطفولة سوى هشاشة الأرواح الصغيرة التي تقاتل للبقاء. هذه ليست قصة من رواية، بل واقع يومي في حضانات غزة، حيث يولد الأطفال في قلب المأساة، ويكافحون للبقاء وسط نزوح، نقص، واكتظاظ لا يرحم.
توأم بلا حضانة
هديل السيقلي، أم لتوأم ولدا في الشهر السابع قبل موعدهما الطبيعي، تروي لـ"البوابة 24" انها كانت برفقة أطفالها في مستشفى النصر للأطفال بقسم الحضانة الخاصة بالخدج، قبل أن تضطر للنزوح من شمال القطاع إلى الجنوب في رحلة شاقة على الأقدام بسبب انعدام وسائل المواصلات.
وتوضح أنها وصلت إلى مستشفى شهداء الأقصى، حيث واجهت صعوبات كبيرة في إيجاد مكان مناسب لأطفالها داخل الحضانة، فبدلاً من أن يتلقوا العلاج الضوئي في ظروف ملائمة، اضطرت للجلوس بأطفالها على الأرض، في غرفة صغيرة مخصصة لست أو سبع حالات فقط، لكنها كانت تضم 27 حالة من الأطفال الخدج.
وتشير إلى أنها في بعض الأيام اضطرت لوضع طفليها داخل جهاز علاج ضوئي واحد، رغم أن الجهاز مخصص لطفل واحد فقط، وذلك بسبب قلة الأجهزة المتاحة (جهازين فقط داخل الغرفة). هذا الاكتظاظ الكبير أدى إلى انتشار العدوى بين الأطفال الذين يفتقرون للمناعة، حيث أُصيب توأماها بدايةً بنزلة معوية، ثم بالرشح وأمراض أخرى.
وتصف السيقلي المشهد بقولها: "الطفل يدخل الغرفة بمرض واحد، لكنه يخرج حاملاً كل الأمراض الموجودة فيها"، مؤكدة أن السبب الرئيس هو الضغط الشديد داخل الغرفة وقلة الإمكانيات الطبية المتوفرة.
الأم حاملة المحلول
أمل سعد، نازحة من شمال القطاع، وصلت إلى الجنوب وهي في شهرها الثامن من الحمل بعد رحلة شاقة مشيًا على الأقدام. بسبب الإرهاق وطول المسافة، ارتفع ضغطها بشكل خطير، ما اضطر الأطباء إلى إجراء عملية قيصرية عاجلة حفاظًا على حياتها وحياة جنينها. وُلدت طفلتها بوزن كيلو ونصف فقط، لتكون بحاجة ماسّة إلى الحضانة والرعاية الطبية الخاصة، لكن الواقع كان مختلفًا. تقول إنها لم تجد سريرًا لابنتها، فاضطرت للجلوس بها على الأرض بجانب الحمام.
وتضيف: "خرجت من عملية قيصرية، وكان من المفترض أن أرتاح على سرير، لكنني نمت على الأرض مع طفلتي". تصف المعاناة داخل المستشفى بقولها إن جهاز المضاد الحيوي المخصص للأطفال لم يتوفر سوى جهاز واحد، ما أجبرها على الانتظار لساعات طويلة حتى تحصل طفلتها على الجرعة. "من المفترض أن تتلقى العلاج في الثامنة صباحًا، لكنها لم تحصل عليه إلا في الثانية ظهرًا بسبب كثرة الحالات .
تضيف لم يكن الوضع أفضل بالنسبة لبقية الأجهزة، فحتى جهاز التبخير كان وحيدًا، أما جهاز تعليق المحلول فكان غير متوفر، ما اضطرها للوقوف ساعات وهي تمسك المحلول لطفلتها حتى تنتهي الجرعة. "نزحت من أجل حماية طفلتي، لكنني وجدت نفسي في مأساة أخرى داخل المستشفى، حيث يفترض أن تنال الرعاية اللازمة، لا أن تكابد الألم بين ازدحام الغرف وغياب الإمكانيات".
واقع صحي كارثي
الدكتور محمد ريان، رئيس قسم الاستقبال والطوارئ في مستشفى شهداء الأقصى، يصف الوضع الصحي في قطاع غزة بأنه "ينهار على آخره"، مؤكدًا أن جميع الأقسام٧ داخل المستشفيات تعيش حالة اكتظاظ غير مسبوقة.
وأوضح أن الأزمة لم تقتصر على الأقسام الجراحية، بل طالت أيضًا أقسام الحضانة ورعاية الأطفال الخدج، حيث أصبح الوضع كارثيًا خاصة بعد موجات النزوح الكبيرة التي شهدتها مدينة غزة، وتوجه آلاف٧ النازحين إلى المناطق الوسطى التي لا تضم سوى مستشفى واحد هو مستشفى شهداء الأقصى.
وأشار ريان إلى أن خروج مستشفيات كبرى مثل الشفاء، النصر، والحلو الدولي عن الخدمة، زاد العبء على قسم الحضانة في مستشفى شهداء الأقصى، الذي بات يستقبل يوميًا عشرات الحالات القادمة من شمال القطاع. وأضاف: "الأطفال الخدج لا يجدون حضانات كافية لرعايتهم، والأمهات يفترشن الأرض مع أطفالهن، ما يزيد المعاناة على الأم والطفل معًا، ويضاعف الضغط على الطواقم الطبية".
انتقال العدوى
وبيّن أن الاكتظاظ الشديد في قسم الحضانة يضاعف مخاطر انتقال العدوى بين الأطفال، لافتًا إلى أنهم غالبًا يأتون بمرض واحد ويخرجون بأمراض أخرى بسبب تلاصقهم الشديد وغياب شروط العزل الطبي. وتابع: "الأمراض التنفسية والجلدية تنتشر بسرعة كبيرة، والخطر على الأطفال الخدج الذين يفتقرون للمناعة أكبر بكثير".
وأكد ريان أن الطواقم الطبية تبذل جهدها يوميًا للحفاظ على استمرارية المنظومة الصحية ومنع انهيارها، لكنه حذر بالقول: "نقف كل يوم على حافة الانهيار، نحاول أن نعيد تشغيل المنظومة بعد كل أزمة، لكن هذا الوضع لن يستمر طويلًا، فالانهيار الكامل قد يحدث في أي لحظة".
وختم مناشدًا المؤسسات الدولية ومنظمة الصحة العالمية بالتدخل السريع والعاجل لتقديم الدعم الطبي اللازم، وخاصة للأطفال الخدج الذين يواجهون خطر الموت نتيجة نقص الإمكانيات والأجهزة، مطالبا المؤسسات الصحية الدولية بزيارة مستشفى شهداء الأقصى لإنقاذ حياة هؤلاء الأطفال.