"حيضٌ" في خيمة.. وكرامةٌ تُهدرها بدائل "الفوط الصحية" بغزة!

غزة/ البوابة 24- صفاء كمال:

ذات فجرٍ بارد من أيام الحرب، استيقظت رحمة محمد (45 عامًا) على همس ابنتها "ملك" داخل خيمتهم المتهالكة في منطقة مواصي خان يونس جنوبي قطاع غزة. كانت ابنتها ترتجف خجلًا وتناديها بهمس: "ماما، الدورة الشهرية جاءت. أريد فوطة".

كانت الأم تعرف أنها ستواجه هذا الموقف آجلًا أو عاجلًا، بينما الإجابة الوحيدة المتوفرة كانت "لم يتبق لدينا أي واحدة". قبل أيام فقط، كانت أختها فرح قد أنهت دورتها وأخذت آخر قطعة قماش في الخيمة لتتدبر أمرها بها بعد نفاد القطع جميعًا، واختفاء العبوات من الأسواق.

لم تستطع رحمة النوم بعدها. غلبها القلق، واشتدّ في صدرها إحساس العجز، فخرجت مع طلوع الشمس تجوب الأزقة الموحلة، تسأل الباعة وتطرق أبواب المحلات. تقول: "ذهبت إلى كل مكان، حتى داخل المحلات الكبرى، لم يكن هناك شيء. اختفاء تام للفوط الصحية، وهي من أبسط الاحتياجات الأساسية للفتيات".

بحثٌ بلا جدوى!

مع حلول الظهيرة، عادت بخُطى مثقلة، خالية اليدين. وحين لم تجد شيئًا، قصدت محل أقمشة، واشترت كمية بسيطة لتقصّها إلى قطع صغيرة تصلح كفوط بديلة.

حين عادت، كانت ملك تنتظرها بتوتر؛ تعاني من حساسية في المنطقة الحساسة وتحتاج فوطًا طبية مخصصة. وعندما علمت أن أمها لم تجد حتى باكيتًا واحدًا، انفجرت بالبكاء. قالت بحرقة: "علي أن أتحمّل آلام الدورة، وأيضًا الحساسية؟ هذا كثير عليّ".

وتخبرنا رحمة: "بكيت من قلبي على حالنا، لم أكن أتصور أنني لن أستطيع توفير حتى فوطة لابنتي".

بعد أيام قليلة، بدأت ملك تعاني من حكة واحمرار شديدين. اصطحبتها والدتها إلى الطبيبة التي شخصت حالتها بأنها التهاب بكتيري ناجم عن استخدام قماش غير مناسب. "قالت الدكتورة إن بشرتها حساسة جدًا، وأعطتها علاجًا ونصحت بعدم استخدام القماش مرة أخرى نهائيًا".

تضيف الأم بقهر: "نحن لا نطلب شيئًا كثيرًا، فقط أن تجد بناتنا فوطًا صحية تحفظ كرامتهن وتقيهن من الأمراض. هذا أبسط حقوقهن، لا أكثر".

اختفت من الأسواق

من خان يونس إلى دير البلح، تروي ميساء يوسف (32 عامًا) قصة مشابهة. تقول: "أنا دائمًا أحتاط وأشتري الفوط قبل موعد دورتي بأسبوع، لأنها غزيرة ولا يمكنني الاستغناء عنها أو استخدام بدائل"، لكنها هذه المرة، ورغم محاولاتها المبكرة، لم تجد شيئًا.

"ذهبت إلى السوق، وبحثتُ هنا وهناك، ولم أجد أي باكيت، وفي طريقي إلى خيمتي صادفت بسطة صغيرة، كان عليها باكيت واحد فقط". فرحت ميساء كأنها وجدت كنزًا، رغم أن البائع طلب 27 شيكلًا ثمنًا له. تقول: "فوجئت، لكنني لم أتردد، شعرت أنني امتلكت شيئًا ثمينًا رغم أنه من المفترض أن يكون متوفرًا دائمًا وبسعر في متناول الجميع".

تختصر شهادة رحمة وميساء وجعًا أنثويًا خفيًا يتفاقم في غزة؛ أزمة النظافة الشخصية التي طالت النساء والفتيات في ظل النزوح والانهيار الكامل في سلاسل الإمداد. الفوط الصحية اختفت من الأسواق، أو تُباع بأسعار خيالية لا يقدر معظم الناس على تحملها. هذه ليست قضية رفاهية أو ترف، بل مسألة صحة وكرامة وإنسانية.

منذ الثاني من مارس

بحسب بيانات مفوضية الأمم المتحدة للسكان (UNFPA)، هناك نحو691,300 امرأة وفتاة في غزة في سن الحيض يحتجن إلى الفوط الصحية شهريًا، بما يعادل 10.3 إلى 10.4 مليون فوطة، لكن أكثر من 75% من هذه الكمية لا تُلبّى.

ومنذ إغلاق المعابر بالكامل في 2 مارس/ آذار 2025، تم حظر دخول مواد النظافة الشخصية، بما فيها الفوط الصحية، ما أدى إلى اختفائها وارتفاع أسعارها إلى نحو خمسة أضعاف عما كانت عليه قبل الحرب.

في تجمعات النزوح، حيث الماء شحيح، والمرافق الصحية نادرة، والخصوصية معدومة، تلجأ النساء إلى بدائل بائسة: أقمشة ممزقة، بقايا ملابس، أو قطع إسفنج. بدائل تُعرّض صحتهن لمخاطر جسيمة: التهابات، بكتيريا، حكة واحمرار، كما حدث مع ملك، ومع كل دورة شهرية، تتجدد المعاناة الجسدية والنفسية معًا.

وتوضح الأخصائية النفسية عبير حسين أن الأزمة تتجاوز الجانب الجسدي لتصل إلى عمق نفسي خطير، خاصة في بيئة النزوح. وتقول: "ما نلاحظه في شهادة رحمة وابنتها هو مثال واضح على القلق المزمن الذي تعانيه النساء في غزة. القلق من فقدان السيطرة على أبسط احتياجات الجسد يولّد شعورًا بالعجز، خاصة لدى الأمهات اللواتي يشعرن أنهن غير قادرات على حماية بناتهن، وهو ما يتكرر شهريًا".

تداعيات نفسية خطيرة

وتضيف: "استخدام القماش كبديل، رغم أنه حل اضطراري، يؤدي إلى تفاقم المشكلات النفسية والجسدية معًا. عندما تتعرض فتاة لالتهابات أو حكة بسبب القماش، ويترافق ذلك مع ألم جسدي، تبدأ مشاعر الإحباط والخجل وربما الانعزال، خاصة في بيئة لا توفر الخصوصية كما هو الحال في الخيام".

وتحذر حسين من أن تكرار هذه التجربة يترك آثارًا نفسية طويلة الأمد، وتتابع: "هناك خطر من تطور هذه المشاعر إلى اكتئاب أو حتى كراهية للجسد والدورة الشهرية، خصوصًا لدى الفتيات الصغيرات اللواتي يبدأن بتكوين مفهوم عن ذواتهن في ظروف قاسية".

وتختم بالقول: "كما نُدرج الغذاء والماء ضمن الأولويات، يجب أن تُعامل الفوط الصحية بالمستوى نفسه. هي ليست ترفًا، بل حق أساسي في الكرامة والصحة، ويجب أن ترافقها حملات توعية نفسية تتيح للنساء والفتيات مساحة آمنة للتعبير دون خجل أو شعور بالذنب".

البوابة 24