حبّ وطلاق تحت القصف.. حين تُعطَّل المحاكم وتُؤجَّل حقوق النساء في غزة

غزة/ البوابة 24- أحلام عبد القادر

لا شيء في الحرب سهلا، وكل ما فيها مهام شاقة من أجل البقاء على قيد الحياة .. وتعدى عبث هذه الحرب غير المسبوقة بالأرواح والممتلكات، لتعصف بالطقوس والعادات والتقاليد المتوارثة، وحتى بالإجراءات الرسمية من توثيق وحقوق.

في زمن الحرب الإسرائيلية على قطاع غزة، التي دخلت عامها الثالث على التوالي، تغيب الكثير من طقوس الزواج المعتادة، وفي ذلك انتقاص من الفرحة، ولكن في وجهه الآخر توفيرا للمال، في مقابل طلاق يهضم حقوق المرأة، لتعطل عمل المحاكم الشرعية.

سميحة عبد الرحمن، امرأة ثلاثينية، لها حكاية مع الزواج والطلاق تعكس عمق المأساة، وتروي للبوابة 24 بمشاعر مختلطة تجربتها المريرة، وتقول إنها تزوجت قبل الحرب بعامين، وكانت تعيش حياة مستقرة ومستقلة مع زوجها، لا يعكر صفوها سوى خلافات صغيرة عابرة تعترض حياة أي زوجين، وتمر بسلام.

اندلعت الحرب، ولم تعد هذه المشكلات صغيرة، "وكأن وقودا صب على النار، وافتقادنا للخصوصية التي كنا ننعم بها، ومع النزوح وحياة الخيام وتدخل المحيطين بيننا ساهم ذلك في إذكاء الخلاف، ولكنه ليس خلافا يستدعي الطلاق، حتى فوجئت يوما بورقة طلاق غيابي".

حقوق مؤجلة

توجهت سميحة للمحكمة الشرعية في مدينة دير البلح، وهي المحكمة الوحيدة المتبقية في وسط القطاع، وعايشت فيها آلاما فوق صدمة الطلاق، حيث الازدحام شديد، وتقول إنها قضت ساعات طويلة في انتظار دورها، لانجاز إجراءات الطلاق، وعندما سألت عن حقوقها الشرعية، كان الرد: "عندما تتوقف الحرب تعالي وارفعي قضية".

بابتسامة لا تخلو من قهر، تقول سميحة: "نحن كنساء ندفع ما علينا كاش ودفعة واحدة، وحقوقنا مؤجلة ونأخذها بالتقسيط على دفعات، كل دفعة منها تذكرنا بمأساتنا".

حصلت سميحة على ورقة الطلاق مصدقة من المحكمة الشرعية في مدينة دير البلح، وعادت إلى خيمتها التي تنزح بها مع أسرتها في مخيم النصيرات للاجئين وسط القطاع، تحمل على كتفيها هموما وأحزانا، تتشاركها مع أغلبية النساء المطلقات، اللواتي أودت بهن الضغوط والمعاناة إلى الطلاق، ولم يحصلن على حقوقهن، إما ابتزازا من الزوج إذا كانت هي من تريد الطلاق، أو لانهيار المنظومة القضائية وخروج أغلبية المحاكم عن العمل.

إجراءات معقدة

لم يشأ القدر أن تطول أحزان سميحة، وبعد انقضاء شهور العدة، "جاءني نصيبي مرة أخرى، وتقدم لخطبتي شاب فلسطيني يقيم في مصر، ووافقت"، تضيف.

ولأن لا شيء في ظل الحرب يشبه غزة ما قبل هذه الكارثة، تكمل سميحة حكايتها مع الزواج من هذا الشاب، الذي تحفظت على ذكر اسمه، وتقول إنه اضطر لمغادرة القطاع قبل الاجتياح الإسرائيلي الواسع لمدينة رفح في جنوب القطاع في 6 مايو/أيار من العام 2024، وإعادة احتلال معبر رفح وتدميره، وهو المنفذ الوحيد لزهاء مليونين و200 ألف فلسطيني في القطاع الصغير والمحاصر على العالم الخارجي عبر مصر.

بعد موافقة سميحة ووالدتها على الارتباط بهذا الشاب، فوالدها توفي بداية اندلاع الحرب في 7 أكتوبر/تشرين الأول 2023، تقول إن خطيبها أرسل توكيلا قانونيا لمحام في مدينة دير البلح وسط القطاع، أوكل بموجبه شقيقه بإتمام كافة الإجراءات.

وتضيف: "بعد تصديق التوكل من المحامي والمحكمة، استغرق الأمر 3 أيام حتى جاءنا الدور للوصول إلى المأذون الشرعي، لعقد القران، وحصلنا على القسيمة (عقد الزواج)، وقمنا بتصديقها من المحكمة الشرعية في مدينة دير البلح".

قد يبدو الأمر بهذه الكلمات البسيطة بأنه سهلا ميسرا، ولكن في الحقيقة متعب ومنهك للغاية، فمثل هذه الإجراءات كانت تنجز بسرغة وكل يسر قبل اندلاع هذه الحرب، "التي جعلت قلبت حياتنا رأسا على عقب، وتعقدت بسببها أبسط شؤوننا اليومية"، تكمل سميحة.  

وتسببت الحرب في خروج منظومة القضاء عن العمل، سواء جراء التدمير المباشر لمقار المحاكم المدنية والشرعية، أو لاضطرارها عن التوقف قسريا لوقوعها في مناطق خطرة تسيطر عليها قوات الاحتلال الإسرائيلي، وبقي عدد محدود جدا من المحاكم الشرعية تعمل بالحد الأدنى من طاقتها. 

وانتقلت سميحة لمربع آخر من المعاناة يشاركها فيه آلاف الفلسطينيين على قوائم انتظار السفر للخارج لدواع مختلفة، وتقول إنها تعيش حاليا على أمل السفر والالتحاق بزوجها المقيم في مصر، غير أنها تستدرك: "لن تكون إقامتنا في الخارج نهائية وسنعود إلى غزة بأقرب وقت ممكن".  

توثيق الزواج والطلاق

في مدينة خان يونس جنوب القطاع، التي تؤوي العدد الأكبر من النازحين، لا تزال محكمتها الشرعية تعمل في ظل ظروف معقدة، وفيها أتم الشاب العشريني سهيل يحيى إجراءات عقد قرانه على خطيبته العشرينية سمر مرتجى.

يحيى (26 عاما) نازح مع أسرته في خيمة بمدينة دير البلح منذ الأسبوع الأول لاندلاع الحرب، عندما أجبروا على مغادرة منزلهم في مخيم جباليا للاجئين في شمال القطاع، بينما خطيبته من سكان مدينة خان يونس ونازحة فيها.

عقد يحيى قرانه على سمر (23 عاما) في هذه المحكمة، وكان "يوما هادئا" بحسب وصفه، ويقول للبوابة 24: "كنا محظوظين وصلنا مبكرا، وأوراقنا كانت جاهزة ولدينا مضبطة بختم المختار وفحص الثلاسيميا، ولم يكن أمامنا طابورا طويلا، وأنجزنا المعاملة بسرعة وبدون معوقات".

لكن السيولة النقدية هي الأزمة التي واجهت يحيى لتوفير رسوم المعاملة، وهي أزمة تواجه كل الغزيين، ويضطرون إلى اللجوء لما يعرفون بـ "تجار العمولة"، الذين يتقاضون نسبة تفوق الـ 30% نظير سحب مبالغ نقدية للمواطنين عبر تطبيقات بنكية.

ولسوسن حكاية من الألم والمعاناة امتدت لسنوات طويلة، وقد اندلعت الحرب وهي "حردانة" مع أطفالها الثلاثة لدى أسرتها في مدينة رفح جنوب القطاع.

تزوجت سوسن (33 عاما) قبل نحو 10 أعوام، لم تعرف خلالها طعما للاستقرار إلا على فترات بسيطة ومتباعدة، وقضت أغلبها غضبانة لدى أسرتها، وتقول للبوابة 24: "عندما اندلعت الحرب كنت حردانة مع أطفالي منذ 3 سنوات في منزل أسرتي".

اندلعت الحرب ولم يحاول زوجها أن يردها إليها، ويجمع شمله مع زوجته وأطفاله، الذين كانوا بحاجة إليه، وتضيف: "انتظرت حتى العام الثاني من الحرب، وبدافع من اليأس أن يعود إلى رشده طلبت الطلاق".

جرى طلاق سوسن من زوجها في المحكمة الشرعية بمدينة خان يونس، حيث تنزح مع أسرتها منذ اضطرارها لمغادرة رفح عشية اجتياحها، وعندما سألت القاضي عن حقوقها الشرعية، طالبها بالانتظار حتى توقف الحرب.

بألم شديد تتحدث سوسن عن 10 سنوات من عمرها "حرقت في زواج فاشل"، والآن تعيش بعيدة عن أطفالها الثلاثة الذين أخذهم منها والدهم، ويحرمها من رؤيتهم منذ طلاقها قبل 7 شهور، وتقول: "سرق عمري، ومصاغي الذهبي، ولم يعطني حقوقي الشرعية، وحتى أولاده لا يعرف عنهم شيئا لسنوات طويلة ولم يتكفل بمصروفهم، والآن يحرمني منهم، وأشعر بقلق شديد عليهم".

تأثير الحرب على عمل المنظومة القضائية

وللوقوف على ظروف الزواج والطلاق في زمن الحرب، يقول المحامي الشرغي المختص بالشؤون الأسرية سالم إبراهيم الجزار للبوابة 24: إن الزواج والطلاق من أهم المواضيع التي تحتاج لتوثيق من قبل المحاكم الشرعية، وبسبب طول مدة الحرب القاسية، تم انقطاع العمل في المحاكم الشرعية، وحرصاً من منظومة القضاء الشرعي على مصلحة المواطنين، تم استئناف عمل المحاكم لإنجاز بعض المعاملات القانونية الخاصة بهم، ومنها معاملات الزواج والطلاق، فيتم توثيق وتسجيل حالات الزواج من قبل المحاكم الشرعية وتسهيلاً على المواطنين تم فتح عدة نقاط كمحاكم شرعية مؤقتة بسبب النزوح، وتدمير المحاكم الشرعية ومنظومة القضاء من قبل الاحتلال، وذلك لإنجاز المعاملات الضرورية.

وتجري عقود الزواج من قبل القاضي الشرعي حسب مكان نزوح المخطوبة، وذلك بعد تدقيق الاوراق المطلوبة وإجراء تحليل الزواج لأحد الخاطبين، ويتم تسجيل البيانات في عقد الزواج، وتسليم نسخة لكل من الزوج والزوجة بعد إبرام العقد إن كانا حاضرين أو وكلائهم إن لم يكونوا حاضرين بأنفسهم، ويتم الاحتفاظ بنسخة في سجلات وقيود المحكمة، حرصاً على مصلحة المواطنين في حال فقدان أحدهم لنسخته فيمكن له استخراج صورة طبق الاصل عن العقد، حسب المحامي الجزار.

ويكمل: نفس الاجراءات متبعة في موضوع الطلاق، ولكن الأمور تختلف حسب كل حالة، ويتم الاحتفاظ بنسخ في سجلات وقيود المحكمة ورقياً، خلافاً لما قبل الحرب فكان بالسابق يتم الاحتفاظ بنسخ إلكترونية، وبسبب ضعف الإمكانيات الموجودة حالياً يتم اللجوء للأوراق كوسيلة للحفظ.

ويلخص المحامي الجزار أبرز المعوقات التي تعترض عمل المحامين والجهات القضائية، ويحددها بالتالي:

• دمار البنية التحتية القضائية، وأهمها المحاكم ما يُعيق العمل أو يوقفه تماما. 

• النزوح وصعوبة التنقل، الناس والمحامون والموظفون القضائيون يجبرون على النزوح من أماكنهم، أو لا يستطيعون الوصول إلى المحاكم بسبب الطرق المغلقة، والأمان غير متوفر، والخطر عال، وهذا يقلل من قدرة الأطراف على إتمام الإجراءات القانونية. 

• انقطاع الخدمات الأساسية، كهرباء، ماء، واتصالات، وهذه كلها مقطوعة أو تعمل بشكل غير منتظم، ما يصعب توثيق المستندات، التواصل، الاحتفاظ بالوثائق، وإجراء الجلسات القضائية.

• نقص الكوادر البشرية، القضاة، المحامون، والموظفون القضائيون قد يكونون مصابين، أو استشهدوا، أو غادروا (نزوحا)، أو غير قادرين على الوصول إلى أماكن عملهم.

• التمويل والموارد، المحاكم تحتاج موارد: ورق، طوابع، موظفين، ومرافق صالحة للعمل، وكلها تحتاج تمويلاً، والحرب استنزفت الموارد الحكومية، ودمرت البنى التحتية كليا.

• الخطر الأمني والقانون الدولي، المحامون يعملون في ظروف غير آمنة، معرضون للقصف أو الاعتداءات، وهذا لا يؤثر فقط على سلامتهم، بل على استمراريتهم في ممارسة العمل القانوني.

البوابة 24