الديكتاتورية الرقمية: كيف تم استخدام هندسة البيانات والتحول الرقمي لإعادة عائلة ماركوس إلى السلطة؟

بقلم: د. نهاد السكني

ما زالت ذكريات الدراسة في الفلبين محفورة في الذاكرة، حيث شهدتُ كطالبٍ حقبةً من التحولات السياسية العاصفة جعلتنا نرى التاريخ وهو يتقلب أمام أعيننا. كنا شهودًا على لحظة خلع الرئيس فرديناند ماركوس الأب في ثورة "قوة الشعب" عام 1986، ورأينا زوجته إيميلدا ماركوس — رمز الترف المُفرط — تُغادر القصور الرئاسية وسط دهشة العالم. ثم تابعنا تولّي كورازون أكينو الحكم، المرأة التي أصبحت رمزًا للديمقراطية الوليدة، قبل أن تهزّ البلاد موجاتٌ متتالية من الانقلابات العسكرية وعدم الاستقرار السياسي. مرت العقود وتبدّلت الوجوه، لكن ملامح الفلبين ظلّت تبحث عن التوازن بين الاندفاع الديمقراطي والرغبة في السلطة الحازمة. ومع مرور الزمن، ووسط التحولات العالمية المعاصرة — من جائحة كورونا التي غيّرت مفهوم الدولة والمجتمع، إلى الحروب والمآسي الإنسانية مثل حرب غزة التي شغلت الوجدان الإنساني — تأخّر هذا المقال، إذ بدا من الصعب فصل التحولات الفلبينية عن المشهد العالمي المتشابك. غير أن هذه التأخيرات الزمنية سمحت لي برؤيةٍ أعمق: أن عودة ماركوس الابن لم تكن مجرّد حادثة انتخابية، بل علامة على مرحلة جديدة من "الديكتاتورية الرقمية" التي تُدار بخوارزميات أكثر من الشعارات. حين ظهر اسم فرديناند ماركوس الابن على أوراق الاقتراع في انتخابات 2022، بدا المشهد وكأنه مفارقة تاريخية مذهلة. فبعد أكثر من ثلاثة عقود من سقوط حكم والده الذي ارتبط في الذاكرة الجمعية بالقمع والفساد، عاد الابن إلى سدة الحكم وسط احتفالاتٍ ضخمة، حاملاً وعود "الوحدة" و"النهضة الوطنية". كيف حدث ذلك؟ وكيف استطاعت العائلة التي طُردت من القصر تحت ضغط الجماهير أن تعود إليه بأصوات نفس الشعب تقريبًا؟ من المنفى إلى إعادة التموقع السياسي بعد الإطاحة بماركوس الأب في ثورة "قوة الشعب"، أعادت العائلة ترتيب أوراقها بهدوء. ركّزت جهودها في الشمال، وخصوصًا في إقليم إيلوكوس نورتي، حيث أعادت بناء قاعدة نفوذها المحلي. لم يكن هذا مجرد عودة تقليدية، بل كان مشروعًا لإعادة تعريف "الماركوسية" نفسها، لتبدو أكثر انضباطًا وكفاءة، مبتعدة في خطابها العلني عن ممارسات الماضي. هذه الاستراتيجية اعتمدت على استعادة "الحنين إلى النظام"، وهو حنين يتغذّى في المجتمعات التي أرهقها الفساد وضعف المؤسسات. ومع الزمن، تحوّل هذا الحنين إلى أساسٍ سردي يُستخدم لتبرير عودة "القوة القديمة" بوجهٍ جديد. معركة الذاكرة في العصر الرقمي من أهم عوامل الصعود الماركوسي الجديد نجاح العائلة في إعادة هندسة الذاكرة الوطنية باستخدام أدوات العصر الرقمي. لم يكن الأمر مجرد دعاية انتخابية على الإنترنت، بل عملية ممنهجة لإعادة كتابة التاريخ بآليات البيانات والخوارزميات. فقد تم ضخ محتوى رقمي هائل يُمجّد فترة حكم ماركوس الأب باعتبارها "العصر الذهبي"، مع التركيز على المشاريع الكبرى والإنجازات الاقتصادية، متجاهلين القمع وانتهاكات حقوق الإنسان. هذه العملية، التي يمكن وصفها بـ"تبييض البيانات"، أغرقت محركات البحث ومنصات التواصل بمحتوى إيجابي متكرر، مما قلّص ظهور المحتوى النقدي والتوثيقي. هكذا تم تحويل التاريخ إلى أصول رقمية قابلة للتعديل — تُعاد صياغتها، وتُقدّم للأجيال الجديدة عبر مقاطع قصيرة ومؤثرات جذابة، حتى أصبحت "الذاكرة" خاضعة لقواعد الانتشار الفيروسي أكثر من الحقائق الموثقة. الخوارزميات، التي تكافئ المحتوى المثير للعواطف، لم تميّز بين الصدق والزيف، مما جعل الأجيال الشابة — التي لم تعش فترة الديكتاتورية — تتلقى رواية رقمية مغايرة تمامًا للواقع التاريخي. في هذه المعركة، لم تُغلق الدولة الإنترنت كما تفعل الأنظمة القديمة، بل استخدمته ببراعة لإعادة هندسة الإدراك الجمعي. الإحباط من الديمقراطية واستراتيجية التحالف الذكية لم يكن نجاح ماركوس الابن ممكنًا لولا فشل النخب الديمقراطية التي حكمت الفلبين منذ عام 1986 في تحقيق وعودها. فقد بقي الفقر، واستمر الفساد، وتعطلت الإصلاحات البنيوية. ومع مرور الوقت، بدأ الشعب ينظر إلى الديمقراطية نفسها كمصدرٍ للفوضى والضعف. هذا الإحباط وفّر الأرضية النفسية لعودة "القائد الحازم". استغل ماركوس الابن ذلك ببراعة، مشكّلًا تحالفًا مع سارة دوتيرتي، ابنة الرئيس الشعبوي رودريغو دوتيرتي. هذا التحالف دمج بين رمزية "القوة الشمالية" و"اليد الحديدية الجنوبية"، وخلق شعورًا بأن الحكم سيجمع بين الانضباط والتجربة الواقعية. أما شعار "الوحدة"، فقد كان أداةً ذكية لتجاوز المساءلة عن الماضي، وتحويل الحوار من النقاش حول الجرائم التاريخية إلى الحديث عن "مستقبل مشترك". التحول الرقمي كواجهة للسلطة المركّزة بعد فوزه، تبنّى ماركوس الابن خطابًا تقنيًا يركّز على التحول الرقمي، والحوكمة الإلكترونية، والابتكار التكنولوجي. لكنه في جوهره، لم يبتعد عن النموذج القديم للسلطة المركّزة. الرقمنة هنا تعمل كـ"قناع حداثي" يغطي استمرار شبكات الولاء القديمة. فبينما تُستخدم لغة الكفاءة والتكنولوجيا، تظل آليات صنع القرار محصورة في الدائرة الضيقة للعائلة والحلفاء السياسيين. بهذا، يتحقق نموذج جديد من الحكم يمكن تسميته بـ"الديكتاتورية الرقمية" — سلطة مركزية مُحكمة، تُمارس السيطرة لا عبر القمع المباشر، بل من خلال إدارة المعلومات والبيانات. خاتمة: الذاكرة ليست ثابتة والديكتاتورية ترتدي قناعاً تُظهر عودة فرديناند ماركوس الابن أن الذاكرة الجمعية ليست ثابتة أو محصّنة، بل يمكن إعادة هندستها رقمياً عبر المحتوى، والمنصات، والمشاعر. في عالمٍ تتداخل فيه الخوارزميات مع الرأي العام، لم تعد الأنظمة بحاجة إلى إسكات الناس، بل يكفي أن تُغرقهم بسرديات جديدة. إنها سلطة ترتدي قناع التكنولوجيا، وتُعيد إنتاج نفسها تحت شعار "الحداثة الرقمية". تبقى النتيجة أن ماركوس الابن لم ينتصر فقط بالانتخابات، بل انتصر في معركة البيانات، حيث تحوّلت الذاكرة الوطنية إلى مجالٍ مفتوح للهندسة الرقمية — وهذا، ربما، أخطر أشكال الديكتاتورية في القرن الحادي والعشرين * ظل هذا المقال مؤجّلًا لسنوات، إذ جاءت جائحة كورونا لتعصف بالعالم، فغيّرت شكل السياسة والإعلام وطريقة تفاعل الناس مع الحقيقة، ثم تلتها مأساة حرب غزة التي استنزفت الوعي والوجدان الإنساني، وجعلت الكتابة عن أي موضوع سياسي آخر تبدو — مؤقتًا — رفاهية مؤجلة.

البوابة 24