بقلم: عائد زقوت
تختبر واشنطن مسارًا جديدًا لإعادة هندسة النظام الجيوسياسي في الشرق الأوسط، قائمًا على تفكيك منظومة التحالفات التقليدية وإعادة تركيبها داخل بُنية متعددة المراكز "بوليسنتريك"، تقلّل من كلفة الهيمنة المباشرة دون التخلي عن السيطرة. وفي هذا السياق، يبدو التباطؤ في الانتقال إلى المرحلة الثانية من وقف إطلاق النار في غزة انعكاسًا لتناقضات استراتيجية أعمق بين القوى الفاعلة، لا مجرد خلافات لوجستية، في ظل سباق محموم على النفوذ داخل خريطة إقليمية تُعاد صياغتها. من غزة إلى دمشق، تُرسم خطوط أدوار جديدة تريد واشنطن من خلالها اختبار قدرة المنطقة على التكيّف مع هندسة سياسية لا تقوم على الولاءات الثابتة، بل على شبكة من الشراكات المرنة والمصالح المتداخلة. وتميل الإدارة الأميركية إلى توظيف قوى إقليمية كوسطاء وظيفيين يمتلكون القدرة التنفيذية والنفوذ الميداني على الأطراف غير الدولاتية، دون أن يُنظر إليهم كخصوم أو منافسين مباشرين للغرب.
وفي هذا الإطار تبرز تركيا بوصفها الخيار الأكثر ملاءمة، نظرًا لعضويتها في الناتو، وصلاتها التاريخية بالإخوان المسلمين، وقدرتها على التواصل مع الفاعلين الإسلاميين، ولا سيما حماس. يرتبط الانفتاح الأميركي على أنقرة بتحولات أعمق في موازين القوى؛ فالتوسع الروسي-الإيراني، وصعود الصين الاقتصادي والسياسي، وتراجع قدرة إسرائيل على إدارة الملفات المعقد خصوصًا غزة بسبب أزمتها الداخلية بين الصهيونية الدينية والعلمانية، كلها عوامل دفعت واشنطن إلى إعادة تعريف أدوار حلفائها عبر شبكة مرنة من الوكالات الإقليمية، تُحقق النفوذ بأقل تكلفة وبأدنى درجة من الانكشاف. ضمن هذا السياق، فإنّ الرفض الإسرائيلي العلني لمشاركة تركيا في ترتيبات غزة لا يعكس قطيعة نهائية، بل مزيجًا من الاعتبارات المبدئية والمناورات التفاوضية لا ينفي كل منهما الآخر. فمن جهة، تخشى تل أبيب من أن يمنح الانخراط التركي أنقرة موقعًا تفاوضيًا متقدّمًا يتيح لها استعادة حضورها الشعبي في العالمين العربي والإسلامي عبر بوابة فلسطين. ومن جهة أخرى، يحمل الرفض نفسه رسالة إلى واشنطن مفادها أنّ أي قبول ولو محدود بالدور التركي يجب أن يقابله مكاسب استراتيجية لإسرائيل في الساحتين السورية واللبنانية، خصوصًا في الجنوب حيث تتصاعد المخاطر. ويعود الاهتمام الأميركي بالدور التركي إلى حاجة واشنطن لجهة تحظى بشرعية ميدانية في غزة دون أنْ تكون جزءًا من محور المقاومة. فأنقرة، بحكم علاقتها التاريخية مع الإخوان واحتضانها قيادات من حماس، تملك قدرة تأثير أكبر من معظم القوى العربية الوزانة والفاعلة في المنطقة، دون أنْ تشكل تهديدًا للمصالح الأميركية. وهذا يمنحها موقع "الناقل الآمن" للتهدئة، ويفتح الباب أمام إعادة ترتيب الساحة الفلسطينية سياسيًا، وتفريغ المقاومة من مضمونها العسكري دون مواجهتها مباشرة، بما ينسجم مع استراتيجية واشنطن الساعية لنقل الصراع من مسار تحرري إلى مسار أمني-إداري يخدم استقرار منظومة السيطرة الغربية.
كما يتقاطع الانفتاح الأميركي على تركيا مع تصور أوسع لإعادة تعريف "الحليف التقليدي"، بحيث تُوزع الأدوار الأمنية والسياسية بطريقة تخفف العبء عن واشنطن. فقد أثبتت الدبلوماسية التركية قدرتها على إدارة التناقضات من أوكرانيا إلى ليبيا والقوقاز، ما يمنحها شرعية عملية في أي ترتيبات تخص غزة، ويسمح لواشنطن بالضغط على حلفائها التقليديين ضمن شبكة تنسيق مرنة لا تعتمد على التحالفات الصريحة، بل على نظام المراكز المتحركة الذي يجعل كل طرف بحاجة إلى الآخر. إلى جانب ذلك، يشكل الدور التركي فرصة لإعادة ترميم العلاقة المتوترة مع واشنطن في ملفات حساسة، كصفقة F-35 وأزمة منظومة S-400، ويتيح لأنقرة تعزيز نفوذها السياسي والعسكري في الشمال السوري بضمانات أميركية. هذه المقاربة تمنح تركيا مسارًا تدريجيًا للعودة إلى المحور الغربي دون التخلي عن استقلالية قرارها الخارجي، وتُظهر واشنطن كوسيط إيجابي يعيد ضبط الإقليم. وفي البعد الاقتصادي، يمكن للدور التركي أنْ يساهم في مشاريع إعادة إعمار غزة وخطوط الغاز في شرق المتوسط، بما يخلق شبكات تبعية اقتصادية جديدة تمنح أنقرة نفوذًا إضافيًا، وتمنح واشنطن قدرة أكبر على توجيه العملية السياسية عبر التحكم في الموارد والمشاريع الكبرى.
مع ذلك، يبقى الأنموذج التركي محفوفًا بالمخاطر؛ إذ تواجه أنقرة خطوطًا حمراء يصعب تجاوزها مثل قضيتي القدس والأقصى بسبب ثقلها الرمزي في الوجدان التركي، وأحد مرتكزات خطاب السلطة. كما أنّ امتدادها العسكري في سوريا وليبيا والقوقاز يشكّل عبئًا قد يحدّ من مرونتها في الاستجابة للمصالح الأميركية. ومن جهة أخرى، قد يدفع التحول الأميركي نحو "التعددية الموجّهة" حلفاء واشنطن التقليديين إلى البحث عن موازنات بديلة لدى موسكو أو بكين أو تكتلات أخرى، ما يُقيّد قدرة الولايات المتحدة على التحكم في ديناميات الإقليم. في جوهر الأمر، تسعى واشنطن إلى إعادة إنتاج نموذج "القوة بالوكالة" بصيغة أكثر براغماتية وأقل كلفة، مدفوعة بتآكل صورتها الأخلاقية وتراجع التأييد الدولي لمنح إسرائيل شيكًا مفتوحًا لحروبها في الإقليم. لكن أي مشروع لإعادة إعمار غزة دون مشاركة إسلامية كتركيا أو عربية مقبولة سيُنظر إليه كاستمرار للاحتلال بأساليب جديدة. لذلك يمثّل الدور التركي واجهة إقليمية مقبولة شعبويًا، ويمنح إدارة ترامب شبكة توازنات تحفظ لها النفوذ المالي والسياسي دون انكشاف مباشر.
وتحمل محاولة إشراك تركيا رسالة مزدوجة: إلى القاهرة، رغم دورها المركزي في حفظ الاستقرار الأمني في المنطقة لعقود ممتدة، بأنّ احتكارها لدور الوساطة لم يعد مطلقًا، وإلى تل أبيب بأنّ أمنها لن يُدار حصريًا وفق إيقاعها. وضمن معادلة "الوسطاء المتعدّدين"، تكتسب واشنطن مساحة تفاوضية أوسع تعيد من خلالها تحديد مواقع الفاعلين وحدود أدوارهم، في خطوة تُنذر بتحوّل تدريجي في بنية النظام الإقليمي نفسه. في المحصلة، تمثل تركيا بالنسبة لواشنطن معادلة مُركّبة تجمع بين الجغرافيا السياسية والعقيدة الاستراتيجية؛ فهي عضو في الناتو ينافس روسيا في الشمال، ويتقاطع مع إيران في الشرق، ويتواصل مع الإسلام السياسي العربي جنوبًا. لذلك، يهدف توسيع دورها إلى اختبار قدرتها على أنْ تكون قوة إقليمية منضبطة ضمن النظام الأميركي، لا قوة منفلتة عنه.
غير أنّ هذا الاختبار يجري في ظل انقسام داخل الاستراتيجية الأميركية بين تيار يدعو للانكفاء وتركيز الأولوية على الصين، وآخر يسعى لإعادة هيكلة الوجود في الشرق الأوسط للحفاظ على النفوذ الحيوي. وهذا يجعل النظام الوليد هشًا وقابلاً للتبدّل مع أي إدارة جديدة أو صدمة ميدانية مفاجئة في الملفات القابلة للاشتعال مثل جنوب لبنان أو البحر الأحمر حيث يمكن لأي مواجهة محدودة أو اختلال في ميزان القوى أن يعيد خلط الأوراق ويقلب مسار أنموذج الاختبار الأميركي الجديد. هكذا لا تبدو التحركات الراهنة مجرد خطوات تكتيكية، بل جزءًا من تحوّل بنيوي في بُنية النظام الإقليمي الأميركي. فالولايات المتحدة تنتقل من منظومة تحالفات جامدة إلى شبكة نفوذ مرنة ومتعددة الأطراف تُوزَّع فيها الأدوار بحيث تبقى واشنطن في موقع التحكم غير المباشر. وتتصدر تركيا هذا التحوّل بوصفها "أداة اختبار" لجدوى الإستراتيجية الجديدة: انتقال من هيمنة أحادية إلى توازن شبكي تتغير فيه قواعد اللعبة دون أن يتغير اللاعب الرئيس. ومع ذلك، يبقى نجاح هذا الاختبار رهين قدرة واشنطن على إدارة تناقضات شركائها دون أنْ تقع هي ذاتها في التناقض بين التمكين والاحتواء، وبين التّحكم والتّخلي، مما يطرح تساؤلًا عميقًا عما تريد واشنطن أنْ تختبره حقًا.
