بقلم الدكتورة شرين الناجي
تشهد المجتمعات الحديثة تحوّلات متسارعة في مفهوم الانتماء، حتى باتت المواطنة تُختزل أحيانًا في شعارات أو انفعالات عابرة لا تمتّ بصلة إلى جوهرها الحقيقي. وفي ظل الأزمات المتفاقمة سياسيًا واقتصاديًا واجتماعيًا، يُصبح من الضروري إعادة تعريف المواطنة بوصفها علاقة تعاقدية تقوم على الحقوق والواجبات، وعلى صدقية الالتزام تجاه الدولة والمجتمع، لا على الارتباطات الضيقة أو الولاءات الطارئة. إن الانتماء الصادق ليس مجرد إعلان عاطفي، بل هو ممارسة يومية تُترجم إلى احترام القانون، وحماية الممتلكات العامة، والحرص على السلم الأهلي، والانخراط الجاد في بناء مؤسسات قوية وشفافة. فالمواطنة الصالحة لا يمكن أن تنمو في بيئة يسودها التسيّب، أو تتراجع فيها هيبة القانون، أو تغيب عنها ثقافة المساءلة والحوكمة الرشيدة. وتُجمع الأدبيات القانونية الحديثة على أن العلاقة بين الفرد والدولة ليست علاقة امتياز، بل علاقة تكامل وظيفي متبادَل. فالدولة تضمن الحقوق الأساسية، من كرامة وتعليم وصحة وأمن وعدالة، فيما يلتزم المواطن بالمشاركة الإيجابية، وعدم الإضرار بالنظام العام، والامتثال للتشريعات، وتطوير قدراته لخدمة المجتمع. وبدون هذا التوازن، تصبح المواطنة شكلية، ويغيب عنها البعد الأخلاقي الذي يمنحها قيمتها الحقيقية. ومن أهم التحديات التي تواجه صدقيّة الانتماء في مجتمعاتنا اليوم انتشار الفردانية المفرطة، وتراجع الثقة بالمؤسسات، وتأثير منصّات التواصل في تشكيل وعي سريع ومجزّأ، قد يدفع بعض الفئات إلى الانفعال بدل الفعل، وإلى الاحتجاج بدل المشاركة البنّاءة. وهنا يبرز دور الدولة في تعزيز الشفافية وضمان العدالة ومأسسة الحوار، كما يبرز دور المواطن في التحرّر من عقلية الاتكالية، والانخراط الواعي في الشأن العام. إن المواطنة الصالحة ليست مسألة قانونية فحسب، بل منظومة قيم تتجسد في السلوك العملي؛ فهي تبدأ من الأسرة والمدرسة والجامعة، مرورًا بسوق العمل، وصولًا إلى المؤسسات القيادية. وهي تحتاج إلى منظومة تعليمية تُعزّز التفكير النقدي، وإلى إعلام مسؤول، وبيئة سياسية تسمح بالتعبير والتعددية، وإلى قضاء مستقل يحمي الحقوق ويرسّخ الثقة بين الدولة والأفراد. ومع كل ما يمر به مجتمعنا من تحديات داخلية وخارجية، تزداد الحاجة إلى استعادة صدقيّة الانتماء كقيمة وطنية عليا. فالمواطن الصالح لا يُقاس بقدر ما يطالب به من حقوق فقط، بل بقدر ما يقدّمه من التزام وفاعلية وإسهام في حماية النسيج الاجتماعي. والقدرة على مواجهة الأزمات لا تتحقق إلا حين يدرك الجميع أن الوطن مسؤولية مشتركة، وأن بناء المستقبل يستدعي شراكة جدّية بين الدولة ومواطنيها. إن صدقيّة الانتماء هي ركيزة العقد الاجتماعي، وأساس الدولة الحديثة، وشرط النهضة الوطنية. وبدونها، ستظل جهود الإصلاح منقوصة، وستظل ثقة المواطن بالدولة هشّة. أما حين تتحقق، فإن المجتمع بأسره يخطو نحو منظومة راسخة من العدالة والاستقرار والتنمية المستدامة.
