البوابة 24

البوابة 24

الرمز والواقعية في "قمرٌ وجسد مظلم" للكاتب علاء أبو جحجوح

ناصر عطاالله
ناصر عطاالله

بقلم: ناصر عطالله

القصة إبحار في خيالٍ لواقع مأخوذ بالأحداث، وصاخب بالأشخاص، ومجروح بالذكريات، أو مشفوع بالأماني، تستعيد مبانيها الشاهقة من عوالم طوتها الأزمنة، وقد تكون الجغرافيا الضيقة قد توسعت كما هو الحال في الواقع الفلسطيني، بعد الاحتلال الإسرائيلي فخرجت من نطاق الحدود المعلومة إلى المدى الوسيع ، والقصة كشريحة في ذاكرة الأجهزة الإلكترونية هذه الأيام، نجدها تعج بكل التناقضات.

الأستاذ علاء أبو جحجوح يأخذنا من خلال أسفاره القصصية إلى محطات عامرة بالحدث، ولا يشفع لنا عنده أن يضعنا أمام توصيفات مطليات بالغموض كبدايات لشد القارئ إلى منتهى المقصد، فمن يقرأ أول القصة يسرح خياله في تقدير المقاصد على أربع جهات، أولها أنه سيحدثك عن مفاجأة، ثانيها أنه سيدخلك في متاهة، ثالثها أنه يستغيثك لتساعده باكتشاف الطريق الصحيح، رابعها الدهشة. ومن يقرأ قمر.. لا يجد سماءً، ولا بئرًا، ولا ضوء خافت يكسر حنادس المدى، بل يجد تلمس أصابع الوقت للنجاة من الحالة الواقعة بين النزف والوجع، لهذا الجسد مظلم، وداكن وشاحب، وكنت أعتقد أنه استهل عتبة النص بقمر كنوع من بزوغ الفجر بعده، أو قادم الأمل، ولكن كأننا نراه يُبكي القمر على حاله، ومثل شخصيات القصص مكلوم ومتورم من الحزن.

ويبدأ الكاتب معنا بفتح الجروح منذ الصفحات الأولى المقدمة للمجموعة، فمن الإهداء الذي خصصه لوالده الراحل الأديب عثمان خالد أبو جحجوح تشعر أنك تورطت تمامًا ببيت عزاء دون أن تقصد، وربما الوفاء أصالة هنا، فروح الكاتب المتعلمة من الراحل الأديب تُسدي شيئًا ما للأبوة والأستاذ معًا، والتوصيف بعشق الوطن كمبتدأ يضعك أمام لغة عامة لها علاقات بالوطنية والانتماء التي يلج منها إلى التعليم والتدريس ومن ثم إلى الإنسانية ويؤمر والده عليها ويجعله الموصيَّ على الثابت والصمود لمواجهة لصوص الأرض، كما لا ينس والدته منبع الظلال، وخيمة المعنى في الوجود كأم ومربية وصاحبة وملجأ.

تأخذنا مقدمة المجموعة التي كتبها الناشر وهو الأستاذ الناقد كامل وافي ( صاحب مركز تجوال للثقافة والفنون) إلى موجز بديع عن الكاتب وأسلوبه في السرد، وماهية القصة وأركانها، مبشرًا بكاتب مبدع وقادر على إعطاء المزيد.

وليس مستغربًا أن يفتتح الكاتب عتبات نصوصه القصصية بسؤال استفهام يعرف جوابه المسبق بعد أن غمسه ببئر الحرمان والحسرة، وما أصعب أسئلة تبحث عن الغناء والفرح، جارًا بـ ( في) المكان وصفاته، والزمن وعتباته ( الطفولة) جر عربة قديمة لأفعال متسارعة ومتعجلة تلهث خلف مبيتها أو راحتها، عشرة أفعال في خمسة أسطر ونصف، بداية كالسهام تشق الريح شقًا، فالمشهد مائي بامتياز، رعد وغيم ومطر، وحرمان ملازم لخلفية المجريات واللعب هنا ليس لهوًا بل مدى استذكار طفلة شهيدة كانت تعيش ذات الأجواء، ومن جمعهم على الفرح المؤقت والمبلل رجل عارف بأحوال الناس وجنائزهم المتكررة، وكأنّه الوطن المعشوق صاحب النشيد صياغةً ومنشديه إما شهداء أو شهداء.

ولم يتخل الكاتب عن وصية أسلافه فجده شهيد، وجد جده شهيد، وما أكثرهم الشهداء في شعبه ،يحن إلى عمواس والقرى المدمرة، وفي عمواس يفتح الكاتب التضاريس على مائدة مشتهاة، من تين وعنب وبرتقال وليمون وزعتر إلخ.. كما الحب الذي هاجم فتاة القرية بشغف قلبها البريء، وصفوة روحها، وخروجها عن المألوف الكاتم لكل المشاعر الإنسانية، هذا الحب الذي اغتاله المحتل أمام شجرةٍ حُفر على جذعها اسم العاشقة لصغيرة لمعشوق هو الوطن الذي أصبح أسيرًا إلى درجة الموت المحتمل.

وكما للعشق براعة الجذب، كان للزنبق جاذبية الأخذ والتسبب باعتقال فتى في أرض المواصي المحتلة ( خانيونس- جنوب قطاع غزة)، هنا يبرع الكاتب في صياغة مونولوج بين بطل القصة ونفسه، حيرة، وتعب، وانتظار، وألم، وأمل، وتحدي المغتصب، ورصاص مباغت وقيد قادم، وكأنّ اصطياد الزنابق في وطنها جريمة يعاقب عليها المحتلون، ولكن الاعتذارات للآباء مبررة بحمل الأمانة وتدبير أمورها بكثير من الحذر والشجاعة.

ومن الوفاء ما وجدته في المجموعة القصصية أن الكاتب خلد الشهيدة رزان النجار تلك الشابة المخطوبة الرقيقة التي أشغلت نفسها بإنقاذ مصابي مسيرات العودة، ونجح برسم الوفاء أن ينقل عدسته الحبرية من مكان المباشرة إلى مكانٍ غير متوقع، وهو ما على خطيبها من أفعال يجب عليه فعلها كسقاية ورد قبرها وإشعال الشموع وكأنّ الكاتب يوجه الشباب إلى استكمال درب الشهيدة رزان والأخذ بالثأر من الأعداء. لست مع ترجمة قصص المجموعة في الاجتماعيات كطابع عام يطفى على المجموعة، بل الكاتب استعمل الرمزية المدججة بالغموض أحيانًا لا أعرف لماذا ودليلي قصة الشاب الذي يسرق والده ليدخل منتزه المدينة في أجواء حرب واحتلال، وكأنّه أراد أن يسقط واقع الانقسام الداخلي الذي سيطرت فيه نوازع التملك والحكم على قطعة من الوطن ولو كان ثمن ذلك غاليًا، فتذكرة الدخول لم تكن أكثر من ورطة تستجوب الاعتذار.

وعلى ما أدرك فهمي لقصة " قمرٌ.. وجسد مظلم" أن القمر السجين أبٌ والجسد المظلم هو السجن، والحرمان جوهر المقصد، واجراءات المحتل غاية بالبشاعة، وألم أمهات الأسرى ألبوم دموع وأمنيات، والعيش بحالتين على نقيض أكثر الأوجاع إيلامًا، فحرمان الابن من زيارة أبيه الأسير اضطهاد، ولقاء الزوجة بزوجها الأسير فرحة لا توصف، فكيف للمرء أن يجمع بينهما!.

وحتى لا أحرق قصص المجموعة فقد اعتمدت أولها لتكوين مفهوم عام عن الكاتب ومدرسته في الكتابة، ومنهجه في طرح القضايا على القارئ، وتبين أنه قلمٌ مشجع، ويسير في طريقٍ صحيحٍ، وتوقعاتي له بأنّه خير خلف لخير سلف. أربع عشرة حكاية في قصص تناولت قضية الشعب الفلسطيني مع الاحتلال الوقواقي، وأساليبه القمعية في القتل والأسر وتدمير المنازل والمنع من السفر، كما عكست صورًا معيشية عن الحياة الاجتماعية منها الزواج المبكر والحمل المبكر، وهجرة الشباب وانعدام فرص العمل. المجموعة من إصدارات مركز تجوال للثقافة والفنون عام 2021م، بعدد صفحات تجاوزت التسعين، من القطع المتوسط، وغلاف موسيقي وتراثي ينم عن إنتباهة حاضرة وإبداع الفنان يوسف حمدان.

البوابة 24