بقلم: د. منى أبو حمدية
باحثة في التراث الفلسطيني
يشكّل التراث الفلسطيني بمستوياته المادية والشفهية والرمزية خزان الذاكرة الجمعية، وركيزة الهوية الثقافية للشعب الفلسطيني في مواجهة التهجير والاقتلاع. ومن هنا تأتي أهمية الأدب بوصفه فضاءً حيًا لإعادة إنتاج التراث وتجديد حضوره في الوعي الجمعي.
في هذا السياق، تبرز رواية «غُربة» للكاتب فوزي بدر نجاجرة بوصفها نموذجا سردياً يجمع بين البعد الواقعي والاجتماعي والوجداني، حيث يتحوّل التراث من خلفية فلكلورية إلى عنصر بنيوي جمالي يسهم في تشكيل السرد واللغة والرمز.
إنّ الرواية لا تكتفي باستدعاء التراث بوصفه ذاكرة الماضي، بل تجعله وسيلة لاستعادة المعنى والهوية في واقعٍ يعيش الاغتراب والانكسار.
التراث في المكان والبيئة
يحضر التراث في رواية «غُربة» أولًا من خلال البيئة المكانية التي تمثّل الريف الفلسطيني بأبعاده المادية والروحية.
فالقرية، بيت الجد، الساحة، الحقول، رائحة التراب بعد المطر — كلها ليست عناصر وصفية، بل رموز للانتماء الأول ولجذر الإنسان في أرضه.
يستدعي الكاتب المكان الشعبي بأدق تفاصيله ليعيد بناء الهوية الجغرافية والروحية للفلسطيني. فالمكان هنا ليس حيّزًا مكانيًا فحسب، بل ذاكرة حيّة تحفظ تاريخ العائلة والقرية والوطن.
«كانت رائحة التراب بعد المطر تذكرني بأمي، كأنها تنهض من تحت الأرض لتغسل قلبي.»
بهذه اللغة الشعرية، يتحول المكان إلى تراث عاطفي يربط بين الأرض والإنسان، بين الحنين والمقاومة، ليصبح التراث جذر الهوية ومأوى الذاكرة.
التراث في اللغة والمأثور الشعبي
لغة الرواية تتنفّس التراث في مفرداتها وتراكيبها وأمثالها الشعبية.
فالكاتب يستحضر المأثور الفلسطيني في حوارات الجد والأم، فيصوغ من الأمثال والحِكم لغة الحياة اليومية التي تختزن قيم الصبر والشجاعة والكرامة.
تظهر عبارات مثل:
«الجهل أمّ الكوارث» و«من لا يحتمل لا يعرف»
كأنها أصداء لأصوات الجدّات والرواة الشعبيين الذين حفظوا الذاكرة الشفهية جيلاً بعد جيل.
بهذا التوظيف، يتحول الموروث اللغوي إلى علامة هوية ثقافية، تمنح الرواية دفئها الإنساني وصدقيتها الواقعية.
التراث في الشخصيات والرموز
تجسّد الشخصيات الرئيسية في الرواية مستويات مختلفة من التراث الاجتماعي والروحي:
• الجد الشيخ محمد: حامل الحكمة الصوفية، وراوي الماضي، ومرجع القيم، يجسد التراث الروحي والوجداني الذي يربط الأجيال.
• الأم نهلة: ترمز إلى المرأة الفلسطينية التقليدية — الأم الحامية، الصابرة، التي تصون الكرامة والعائلة. تمثل التراث الأخلاقي والأنثوي في المجتمع الفلسطيني.
• العمّ: يمثل الوجه السلبي للتراث حين يتحوّل العُرف والتقليد إلى سلطة قهرٍ اجتماعي، فيُظهر الكاتب بذلك صراع الأصالة مع الجمود.
بهذا التوازن الذكي، لا يقدّم نجاجرة التراث بوصفه مثاليا مطلقاً، بل يكشف عن ازدواجيته:
قيمة إنسانية حين تستنير بالوعي، وسلطة قمعية حين تُفرغ من معناها.
التراث في القيم والمعتقدات
يظهر الموروث القيمي في الرواية من خلال مفاهيم مثل:
الوفاء للأسرة، احترام الجد، قداسة الأم، حفظ الشرف، الإيمان بالقَدَر، والتصوف كطريقٍ للسكينة.
هذه المعتقدات تشكّل شبكة من الروابط الاجتماعية التي تحفظ تماسك المجتمع، لكنها في الوقت ذاته تُصبح موضع مساءلة حين تُستعمل لتبرير الظلم أو الخضوع.
من هنا تأتي الوظيفة النقدية للتراث في الرواية: فهو ليس رمزا ثابتاً بل موضوعاً للمراجعة والتجديد.
التراث كهوية مقاومة
في عمق الرواية، يتحول التراث إلى قوة مقاومة للنسيان.
الأغاني، الأمثال، طقوس الحياة والموت، صورة الأم، كلها أدوات رمزية لمواجهة التفكك والاغتراب.
يستعيد الكاتب عبرها الهوية الفلسطينية كفعل ذاكرةٍ حيّة لا تموت مهما تبدلت الأزمنة.
فكل ذكرٍ للمكان، وكل استعارة من الذاكرة، هو شكل من التمسّك بالوجود ومقاومة الاقتلاع.
وبهذا المعنى، يغدو التراث في «غُربة» درعا للهوية أمام الغربة والانكسار.
توظيف التراث
في ضوء ما تقدّم، يمكن القول ان رؤية الكاتب للتراث لم يكن نزعة زخرفية، بل وعياً جمالياً وسرديا نابعا من إيمانه بأن الحكاية الفلسطينية لا تُروى بمعزل عن جذورها الثقافية. التراث هو صوت الأرض والناس البسطاء، وهو ما يمنح النص صدقه الإنساني. واستحضاره لا يقيّد حرية التعبير، بل يمدّها بجذورٍ عميقة توازن بين الذاكرة والإبداع، الأديب لا يُسجن في الماضي، بل يعيد صياغته بروح الحاضر.
هذه الرؤية توضّح أن التراث في الرواية ليس ماضيا منغلقاً، بل حاضرٌ فاعل يعيد وصل الأجيال بجذورها دون أن يقيّد حرية الكاتب أو خياله الفني.
وأخيراً؛ تُظهر رواية «غُربة» أن التراث الفلسطيني ليس ماضياً يُستعاد، بل هو وعيٌ يُجدَّد في كل تجربة إنسانية.
لقد جعل فوزي بدر نجاجرة من التراث بنيةً سردية وهويةً جمالية تتقاطع فيها الأرض والذاكرة والإنسان.
ومن خلال لغته المشبعة بالمأثور الشعبي وصوره المكانية الغنية، أعاد للتراث وظيفته الأصلية:
أن يكون جسرا بين الأجيال، وصوتاً للهوية، وذاكرةً مقاومة للنسيان.
هكذا تتحول الغربة في الرواية من وجعٍ فردي إلى بحثٍ جمعيٍّ عن الجذر والهوية، ويصبح التراث هو المفتاح لقراءة الذات الفلسطينية في مرايا الذاكرة.
