بقلم: ياسمين كنعان
سراب..
قلت لك "إن الذكريات لا تكف عن التجول في سراديب نفسي جيئة وذهابا ... كلما جن ليل انتعلت خفي الحنين وصارت تدق بأقدامها أرض نفسي المتشققة بالوجع..!"
وتقول لي "ما الوجع؟!"
وأقول لك "إنه شيء لا تصفه كلمات ولا يحيط به وصف، كمارد بين السماء والأرض، إن ارسلت بصرك خلفه ارتد إليك بصرك دون أن يقبض على ملمح منه، وإن اخفضت بصرك وتركته يحفر في سابع أرض باحثا عن أصله وجذوره الممتدة في أرض نفسك تاه نظرك في دهاليز نفسك وضعت وخاب مسعاك، فلا انت قادر على اجتثاثه من جذوره ؛ لان جذوره ضاربة فيك ومتغلغلة في تربة أعماقك، ولا أنت قادر على التحليق بعيدا عنه؛ فكأنك والحال هكذا امتزجت وتماهيت به ، وكأن الوجع صار أوجاعا، أو ربما تفقَّس في النفس مثل درنة خبيثة، أن جئت تجتثها توجب عليك اجتثاث شيء منك أو من جسدك أو من عمرك أو من روحك، وإن تركتها على حالها تفشت مثل أي ورم خبيث...!
الوجع أن تترك كل الأشياء على حالها، كموعد انتظار خانه أصحابه؛ تبخر اللقاء وبقي الانتظار وبقيت موائده على حالها، و لتقريب المعنى سأقول لك "الأمر أشبه بطلل..! فكيف تعرف ان الحب والفراق مرا على قلب الفتاة أو الفتى ؟!
ستقول "من تنهيدة ، ربما من نظرة منكسرة ، ربما من نظرة حائرة أو دمعة عالقة بين الجفنين؛ وكلها صور رسمها الفراق على محياهما ، وكلها صور للوجع.
الوجع أن أطرق باب الذكريات مرة وأثنتين وأكثر ..ويصرخ الغياب من خلف أبواب الحنين؛ ما في الذاكرة من أحد يتذكر ..!
وأنت نسيت؛ وربما ما عدت تتذكر ، وأنا أنفقت عمري كله في انتظارات ومواعيد فارغة، وكلما أخفقت في إيجاد تتمة مناسبة للحكاية، استرجعت الفصل الأول من الحكاية..!
لو تدري كم مرة أعدت تمثيل مشهد اللقاء الأول، وكم أضفت وكم حذفت، وكم بدلت في التفاصيل، وكم أطلت في عمر اللحظة وكأنها الأبد!
الوجع أن تحفظ ذاكرتي كل هذه المنمات الصغيرة ، الوجع هو تكرار المشهد في ذاكرتي ، واجترار اللحظة مرات ومرات كأن الفيلم يعيد نفسه دون توقف؛ وكأن المشاهد الوحيد أنا ، وكأن عيوني مفتوحة على اللحظة ذاتها، وكأني حين أغمضهما يعيد الحلم إنتاج اللحظة ذاتها..!
الوجع أن نكون(نحن )؛ أ"نت و أنا" الثابت الوحيد وكل ما حولنا يتغير.
الأمر أشبه بعصر من الجليد يوقف زماني وزمانك ويجمد اللحظة..!"
وتسألني إلى متى يستمر هذا الوجع اللعين ؟! وافتح كفي باستسلام وأقول" لا أدري ربما إلى أبد الآبدين. .أو ربما عندما أشفى منك أو ربما حين تلفظك الذاكرة مثل نواة فكرة تؤجج الحنين ، أو ربما حين يتوقف المشهد عن التكرار، أو حين يقرر المخرج أن يغير مجريات الأحداث ، او حين يعلن البطل و البطلة انسحابهما من العرض ، أو حين يتخطفهما الموت على خشبية الحياة، أو ربما حين يمنحان للوجود طفلة تحكي للأجيال القادمة الحكاية بتفاصيل أقل ونظرة محايدة..!
أتدري ما الوجع ..؟! الوجع أن يكون كل هذا ، وأن أبقى عالقة في وهم البداية ، وأن أدخل المشهد وأنا المحك للمرة الأولى من وراء المكتب الصغير ، أن تتعثر عيوني بنظراتك التي تصوبها نحو الروايات التي احتضنها بذراعي، وأن ترتبك نظراتي وانا أشد الكتب إلى صدري في محاولة عابثة لإسكات نداء قلبي، وأن ارفع عيني وأرك..أقصد أن لا أراك، أن أرى في عينيك قلبي ...!
الوجع أن تمضي بلا وداع ، وأن ابقى معلقة على أكثر من خيط أنتظار وكلها خيوط نسجتها من سنوات عمري الذي تخطفته الحياة، وأن ابقى اتأرجح على الخيوط كلها، وأن لا أحلق إلى سماء ولا أهبط على أرض، فالسماء كشطت في غيابك والأرض رخوة؛ لا أزرق يحتويني ، ولا تربة أواري فيها حماقات انتظارك ..!
الوجع أن تبقى روحي عارية ومكشوفة؛ لا حضورك يلملم شتاتها ولا غيابك مكتمل !
الوجع أن أبقيك في قلبي وأدور حولك وأن أقدم لك كل قرابين العمر المنهوب، وكل ثمار السعادة التي لم تكن ...!
الوجع أن أكتب لك عن مواجعي وكأنك الحاضر الوحيد في ليلي. .فكيف أتمثلك أمامي كل لحظة، كيف أسمع صوتك، وأنا أعلم أن لا نأمة في سراديب نفسي سوى وقع خفي الحنين الذي لا يتوقف عن التجول جيئة وذهابا!
الوجع أن أكتب لك وأنا أحاول أن اقنع نفسي بجدوى الأدب كأن أجادلك في قضية وان أعلم أنها خاسرة، كأن أقول لك .."أتدري لأي شيء وجد الأدب؟!"
لأجلي وأجلك وجد الأدب،
لأجل نقصاننا واكتمالنا على الورق،
لأجل أن تكون الكلمة ضحكنا الصاخب،
أو بكاءنا الصامت،
لأجل أن نهرب القبلات الممنوعة،
ونطلق سراح النجمة من قفص الليل الشاحب،
لأجل أن نصير أصواتنا أو صداها
ولو لمرة واحدة في الحياة،
لأجل أن تقول البنت لغابئها بكلمات مواربة؛
ما نسيتك ولن أنساك ،
لأجل أن أطل عليكم بوجهي الحقيقي،
لأجل أن أسرب لكم بعض أسرار ذاتي،
ولأجل أن تبقى الحقيقة بعدي؛
فكل حقيقة لا تخلدها الكلمات سراب !
**حماقات مسائية
-ياسمين كنعان
3 آب 2021