البوابة 24

البوابة 24

المرأة حارسة الحب

محمد قاروط
محمد قاروط

بقلم:محمد القاروط (أبو رحمه)

 المرأة، هي أمي...زوجتي وحبيبتي وعشيقتي، هي أختي وبنتي.

المرأة، هي زميلتي، وصديقتي، ورفيقة دربي في النضال.

المرأة، نحن منها، وهي منا.

 الرجال بدون المرأة، صخور جافة متحجرة.

المرأة، حافظة الجنس البشري، وفي فلسطين حافظة نارنا المقدسة. 

المرأة، مَوْلِدُ الحب، ناشرة الأمل، باعثة للحياة. 

والمرأة، تنتج الحب، تولد الحب، هي الحب، ومن أفضل منها ليدافع ويحمي وينمي ويرعى ويصون ويحرس... الحب. 

(1) زوجة الأسير

بدت السماء صافية، والقمر بدراً، وكما تقول والدتي، ليلة يغربل فيها القمح بالغربال على ضوء القمر، ويُخبز بالطابون، ليلة قد تبيض الدجاجات فيها أكثر من مرة، شديدة الضوء، وكأنها الشمس في وضح النهار.

تسللت من غرفتها ولم تجد عبدي فيروز، لا عنترة ابن شداد ولا الليل، ولكن القشعريرة ضربتها من رأسها إلى أخمس قدميها، لا تدري أهو الخوف من شدة ضوء القمر كأنه النهار، أم أن هواء الخريف العليل تسلل من ثوب نومها، ولامس قدها، فارتعشت منه، أم أنها قد تصورت لقاءه، وكيف سترمي نفسها، وتسلمها إلى راحتيه.

خطت خارج المنزل خطوتين وتسمرت مكانها، تقلب النظر في ضوء القمر، تتزنر بثوب النوم، جسمها يقاوم الارتعاش ولكنها تزداد ارتعاشاً.

جلست على الأرض، بين النعناع والزعتر، وبكت طويلاً ثم قالت: اللهم فرج كربه كما فرجت عن أم موسى، وأخرجه من ظلمة السجن كما أخرجت يونس من ظلمة بطن الحوت، وأجعله يا رب حبيباً، وحبب خلق الله إليه، يا رب أدعوك أن تجعل لقائي به قريباً، يفرج بفرجه عني، ويمسح دمعي.

استيقظ الابن الأكبر، ولم يجد أمه، وشاهد الباب مفتوحاً، لحق بها، جلس بقربها ورخا رأسه على صدرها، وقال لها، لقد رأيت في المنام أنني أصنع القهوة لكِ ولأبي، وأنتما نيام وظللت أطرق الباب عليكم، ولم تستجيبوا إلى وقت الغذاء، فقلت لكم القهوة باردة، فقلتما يا بني اصنع لنا عشاءاً، هذا وقت القيلولة.

صاح الديك، ونادى المنادي الصلاة خيرٌ من النوم، صلت وفي القنوت قالت، يا رب استجب لدعائي، وفرج كربته واجعل حُلم ابني رؤيا. 

فجأة سمعت ضجيج أهل الحي، واستحضرت بذاكرتها لحظة اعتقاله وما رافقها من ضجيج الجيش المحتل، أيقظتها الزغاريد، خرجت مسرعة فإذا به ساجداً على الأرض يقبلها، خافت قالت لابنها، أضرب أمك يا ولد حتى تعرف أهي نائمة أم هائمة، هجم عليها حضنها حتى أصبحا شخص واحد لا نعرف أيهما غاب بين أضلاع الآخر. 

شرب الجيران القهوة، وتركوهم.

 في العاشرة صباحاً دق الولد عليهما غرفة الغرفة، وقال: القهوة، ولم يسمع ردا،.

 وفي الوقت الغذاء دق الباب، وقال الغذاء جاهز ولم يسمع رداً، وفي المساء قال، سأوقظهما فإن لي في أبي حصة واشتقت إليه، دق عليهما غرفة الغرفة مرات ومرات حتى أنفتح الباب من شدة طرقه، تفاجئ وانكفأ عندما رأى سريريهما مرتب جيداً، ولم يكونا فيه. 

بحث عنهما فوجدهم في زاوية الحديقة يتهامسان، رد التحية وقال ألم تناما بعد... قالت أمه والدموع تنهمر على خديها، أخاف أن أنام وأستيقظ ولم أجده.... آه ما أصعب فراقه.

المرأة، زوجة الأسير، قدمته لوطنها بود، وانتظرته بود، واستقبلته بود.

المرأة، بالود تقدم، بالود تنتظر، وبالود تستقبل وتحيى.

حافظوا على ودكم ووردكم.

(2) أمي زوجة الشهيد 

أنا أكبر التسعة، كان عمري ثلاثة عشر عاماً عندما استشهد والدي، وعندما كنا نخرجها من ثوبها وعن طورها من شدة إزعاجنا لها، تنهرنا، واعتدنا على ذلك. 

في إحدى المرات التي أخرجناها من ثوبها وطرها، وحتى وجلدها، قالت: لو متم التسعة وبقى هو.

 فاجأتني بقولها، وحملته لها، وبقيت أذكرها به، وكلما ذكرتها به ضحكت حتى تبان نواجذها.

أصبحت جَدّاً وعندما تتاح لي فرصة لقائها أذكرها به، ولكن مع إضافة بسيطة أنتِ على حق يا أمي، فتضحك وتبكي ونقرأ له الفاتحة. اللهم ادم عليها صحتها، واطل في عمرها.

(3) اشتقت إلى الأولاد

في الثلاثينات من القرن الماضي، في بلدة كفر رمان القريبة من النبطية حكاية تروى بأسماء أصحابها.

 كفر رمان بلده على كتف النبطية في جنوب لبنان، ومدخلها إلى الشمال، ومدخل وادي الجرمق الشهير، وبوابة العيشية.

 جمال البلدة الأخاذ وهوائها العليل صيفاً كحبة زيتون على شجرة جمال أهلها، وخفة دمهم، وشهامة رجالهم وطيبة شيوخهم وحسن تدبير نسائهم، وفصاحة ألسنتهم. 

كان بعض أهل القرية يعملون غالباً في مديني صور أو صيدا.

 كان صاحبنا يسكن على الطابق الثاني فوق أهله وله ثلاثة أولاد، خرج في الصباح الباكر للعمل في صيدا مودعاً زوجته، وكان بحاجة إلى نصف يوم للوصول إلى المدينة.

 في المساء دق الباب فتحت أخته ففاجئها بعودته، فسأله أبوه، ما بك...؟ أوصلت إلى صيدا؟ قال: نعم، قال له أبوه أمضيت نصف نهارك ذاهباً إليها والنصف الثاني عائداً منها؟! 

ماذا جرى؟ 

قال وهو ينظر إلى زوجته اشتقت إلى الأولاد.

 مدت والدته العشاء، وسهرا.... بحث عن زوجته فلم يجدها، قالت أخته لعلها صعدت إلى بيتها. أخذ أولاده وصعد الدرج بسرعة عالية، فتح الباب فوجده مقفلاً! طرق الباب بحنيه، ثم بعنف لعلها نائمة، خرجت عن صمتها وقالت: من في الطارق؟ قال أنا: قالت ماذا تريد؟ قال أريد الدخول! قالت له ألم تقل لأهلك أنك اشتقت إلى الأولاد؟ وهم معك، فانزل بهم عند أهلك وأشبع برؤيتهم!.

 قال: اشتقت إليكِ، ولم أستطع فراقك، قالت: اذهب وأخبر كل من كان في بيت أهلك انك مشتاق لي، لي أنا.

 قال: الجيران والأصدقاء ذهبوا إلى منازلهم! قالت له:  والله لا أدخلك حتى تذهب إلى أهلك، وإلى الجيران والأصدقاء الذين حضروا سهرة هذه الليلة وتقول لهم:

اشتقت إلى زوجتي. 

علمته البوح بالحب، علمته أن يكون إنسانا. 

نحن نقاتل لأننا نحب وطننا.

نحن نستشهد ونأسر ونجرح ونتغرب ونتشرد، لأننا نحب وطننا.

فمن يبخل على تاء التأنيث، وتاء الهداية والشهامة والمروءة والأمانة والكرامة...وتاء الغواية، بحفنة حب وود...بخيل. 

توليد الحب وكرمه ونثره واستقامته وديمومته والحفاظ على شعلته ووهجه...مسؤوليتها، انه منها واليها.

بخيلة على نفسها من لم ترتوي بالحب وتسقينا منه.  

البوابة 24