البوابة 24

البوابة 24

غزة أو ابتسامة الموناليزا في اللوحة العظيمة

الطفلة عائشة
الطفلة عائشة

بقلم:د.ايهاب بسيسو
غزة أو ابتسامة الموناليزا في اللوحة العظيمة ...
أمام باب مستشفى الشفاء مقهى صغير، تخرج - لدقائق - من وقتك المشحون بالقلق كي تفرغ وجعاً خفياً في فنجان ورقي متحرراً من الكمامة الطبية وأدوات التعقيم ...
تجلس قرب النافذة الواسعة المطلة على الطريق، على بعد خطوات منك تواصل الوالدة سباتاً متقطعاً بتأثير العقاقير الطبية للتخفيف من تداعيات ألم فيروس كورونا على الجسد ... 
تتأمل المدينة الراكضة على امتداد شارع الشفاء المنحدر جنوباً في اتجاه شارع عمر المختار، العابر من الميناء غرباً إلى ميدان فلسطين "الساحة" وتمثال العنقاء شرقاً مروراً بمركز رشاد الشوا الثقافي وحديقة تمثال الجندي المجهول الغائب، والسرايا التي كانت مقراً عسكرياً للاحتلال وسجناً اعتقل فيه والدك مطلع السبعينات وسوق فراس الشعبي وبلدية غزة والمستشفى المعمداني الذي ولدت فيه ذات صيف بعيد ... 
في هذا الوقت المتشكل من ذاكرة طفولة في الطرقات ومشقة عبر الأزمنة تطل صورة عائشة اللولو ابنة الخمس سنوات والتي رحلت قبل أيام ...
عائشة التي كانت مصابة بورم في الدماغ والتي تلقت علاجها وحيدة في مستشفى المطلع بعد أن منع الاحتلال والديها من مرافقتها إلى المستشفى في القدس.
عائشة التي أُجريت لها عملية في الدماغ وعادت بسنواتها الخمس وحيدة إلى غزة عبر معبر بيت حانون/ ايريز لتفارق الحياة قبل عدة أيام في مستشفى الرنتيسي للأطفال شمال غزة ... 
عائشة التي كانت تعاني طوال فترة علاجها في القدس من الوحدة والألم وبرودة الوقت حول أحلامها الصغيرة المرتبكة كأفراخ عصافير في مهب 
تفكر مرة أخرى في مفردات الخبر الذي قرأت عن عائشة، الوقت الذي عاشته الطفلة وحيدة على سرير في مستشفى، قلق الوالدين، البكاء، الصراخ، اضطهاد الجنود للأحلام البسيطة وقسوة السياج الممتد كنصل سكين حول عنق المدينة، الطرقات المبتورة بسبب غياب التصاريح والقذائف، الخوف، الاطمئنان المرتجف كشفتين مضطربتين من نقص الاكسجين ... 
وفيما تعيد قراءة الخبر مواصلاً التحديق في الوجه الملائكي الصغير يأتي إعلان وزير جيش الاحتلال الاسرائيلي غانتس عن تصنيف ستة من مؤسسات المجتمع المدني الفلسطيني بأنها "مؤسسات ارهابية"  من بين هذه المؤسسات الحركة العالمية للدفاع عن الأطفال - فرع فلسطين ... 
كأن ألم المفارقة يعيد صياغة الغضب في ثناياك مع رحيل الطفلة عائشة اللولو، كي تكتمل ملامح الصورة التي تحياها المدينة في ثنايا الحصار اليومي والعدوان المستمر بأكثر من شكل على مدن وقرى وريف وجبال وصحراء وساحل الخارطة ... 
المدينة ...
غيابك وحضورك المتحدان في جسد، مرور الزمن بطيئاً وسريعاً في هتاف الباعة المتجولين وأبواق السيارات ...
وأحاديث المقهى عن ملوحة البحر في صنابير المياه وتلوث الهواء بصخب الزنانة - طائرة الاستطلاع- المتواصل على مدار الوقت  ... 
تجلس إلى طاولة من البلاستيك العتيقة في المقهى شبه المزدحم، تتابع احتراق الوقت كتبغ سيجارة في منفضة فيما الطريق يواصل الاندفاع بكل ما فيه بشر وأطفال وسيارات وذاكرة وحكايات نحو غد لم يفصح عن كامل ملامحه بعد ... 
تحاول ارتشاف القهوة على مهل دون ارتباك، مدركاً أن الوقت الذي يدفعك نحو السرعة لا يكف عن دق جدران رأسك بإزميل من قلق فتنتفض وأنت تدفع بثمن القهوة وتخرج على عجل، كي تعود إلى وقتك المشحون بالتوتر والأمنيات ...
ولسبب ما تتخيل الوالدة تفيق من سبات متقطع متسائلة في قلق أمومي: وين كنت يما؟ ...
فتهتف للوجه المتخيل في ابتسامة: هنا في مقهى قريب، سامحيني إن كنت قد تأخرت ...
فتغمض عينيها ثانية وتواصل النوم في سبات التعب ... 
ملاحظة شبه دقيقة: غزة تشبه ابتسامة الموناليزا، أما دافنشي فهو عدة رسامين نجحوا وفشلوا وما زالوا مستمرين في رسم هذا الوجه الذي يخفي العديد من الحكايات في تفاصيل اللوحة العظيمة ...

 

البوابة 24