المكتبة فى الليل

 المكتبة في الليل؟!

بقلم:محمد أحمد سالم

أجمل وأهم مشهد في ""حوار المصالحة. المصلحة " هو دور الصفر ، اى افتقد دور المراة. وأرجو ألا يثير تعبير "دور المرأة" حساسية بعض المحافل النسوية وجحافل أنصار المرأة، لأن الموضوع ليس موجها للمرأة بقدر ما هو موجه إلى نسق اجتماعي وسياسي ونسوي مرعب. "كيد رجالي" بقوة خارقة يغذيه المال السياسي، وجحافل من السوقة والدهماء  من كل المهن والأطياف، على رأسها الإعلامي والفني والسياسي. كانت شخصيتا مسرحية بريخت "أحاديث اللاجئين"، زِيِفِّيل وكالي، تناقشان ماهية الوطن والوطنية.

تشربان القهوة وتتبادلان الشكوك. تعترف إحدهما قائلة: "بدا لي دائمًا أنه من المثير للدهشة والعجب أن يكون من الضروري على الناس أن يُكِنِّوا حبا خاصا لتلك الدولة التي يدفعون فيها الضرائب". ولكن هناك رابط آخر يربط هذه الضرورة بعدم وجود خيار: "كما لو كان على الشخص أن يحب تلك التي تزوج منها، بدلا من أن يتزوج من تلك التي يحبها".  كما ظهر البعض، فى مسلسل الكذب، ومهرجان السحر والدجل السياسي، ليتذكر كل منهم طفولتها المعذبة وماضيه الرقيق والرفيع.

كل منهم عبَّرَ بقدر وعيه الوطني وتعليمه وإتقانها، لسياسة " الواد مزيكا" للغة الجسد ولغة العيون ولغة اليد الطويلة،و أداة الوعي ما  بعد الحداثي.. السياسي. وفي الغرف المغلقة نرى ما لا عين رأت ولا أذن سمعت. ولأن الكتابة تصنع الرجل الدقيق، والنقاش يصنع الرجل المستعد، والقراءة تصنع الرجل الكامل، فإن هذا الكمال لا يشمل الثقافة في الأغلب! فثمة قراء، وثمة مثقفون! وأصل الحكاية، كما قال: العم "عشم" اعز أصدقائي.. و هو واحد من رجال كانوا يضحكون الناس والعبرات تخنقهم ويشيعون الأمل واليأس يكاد يقتلهم .. الضحكة الصافية تملأ وجوههم وفي القلوب حسرة! و لا يعيشون طويلا. يموتون بأسنانهم اللبنية وقلوبهم الخضراء. يموتون دائما بالصدفة. تظل ملامحهم مزروعة في الذاكرة مهما اعتلاها التراب وتعددت القبور. فذاكرة الموت أوسع من ذاكرة الحياة. لكن الحياة أجمل من الموت وورود المقابر ودموع الأحباء. أصدقائي لا يحاربون الوحدة، ولا يتهافتون، ولا يتحنجلون. أصدقائي يدمنون الموت صغارا مثل الفراشات والتماعات النجوم وابتسامات الصبايا. لا يحبون الحرب الاهلية، ولا يفضلون الذهاب إلى المعارك الخاسرة مهما انتصر قادتهم وحازوا على الأوسمة الكبرى والأموال الكبرى والأملاك الكبرى، ومنحوهم هم بعض الأموال وعلقوا على صدورهم نياشين وميداليات لا يلبث الصدأ أن يعلوها. في "وطن" أصبح خارج الزمن وخارج الحسابات وخارج المنطق. كان برتولد بريخت يقول: " هكذا كانوا يتسللون إلى أصدقائي الذين ظللتُ أجمع أحذيتهم المخضبة بالدماء بقية عمري. وعندما جمعتها، نسيت ملامحهم، وتاهت مني قبورهم، وظللتُ أبكي حتى راح بصري. يقول الروس أيضا: "لا أحد يختار الوطن"، ولكن الأولاد يغادرون. فكم كان عدد موجات الهجرة؟ الأولى والثانية والثالثة، والآن الرابعة. يذهب الناس إلى دولة أخرى للحصول على جواز سفر جديد وبدء حياة جديدة. يفرغون أشياءهم في المكان الجديد، ثم يفرغون قلوبهم التي يوجد فيها الوطن الذي لا يشبه إطلاقًا تلك الأشياء التي تأتي من أعلى مثل وحدة السلطة والشعب التي هرب منها الناس أصلا. ملعون بريخت هذا، ومثير للجدل والصداع في آن معا. يعذبنا كأنه عربي، وكأننا اشباح... إنه سفاح.

أقلعتُ مؤخرا عن إدمان الأصدقاء الذين يموتون في الحروب الداخلية .. لأنني بصراحة تعبتُ من جمع أحذيتهم وتذكر ملامحهم ومقابرهم. وأقلعتُ عن أولئك الذين يرددون الشعارات الكبرى، ويدعون لوحدة الناس والسلطة و"الوطن"، ويجمد الشعب ككتلة واحدة صماء، ويؤمنون بأي شيء لتمضية الوقت وسد الفراغ أو لممارسة عادات الضِبَاع. أقلعتُ عن مدمني الأذى، " فى الوطن" الذي يُجوِّع أولادي ويحرمني من حريتي، ووليتُ وجهي نحو الحلم، ونحو أصدقائي الذين راحو وكان بودهم إدمان الحياة، فظلتْ ملامحهم حية في الذاكرة بأسنانهم اللبنية وقلوبهم الخضراء، وضحكاتهم التي لا تزال تجلجل فتنبت لمقابرهم أجنحة، وتطير. إذا كانت لديكم دموع فتهيؤوا لذرفها.. عم "عشم".

البوابة 24