البوابة 24

البوابة 24

الناجون من المجزرة يتكلمون صبرا وشاتيلا أربعون عامًا -جريمة تأبى النسيان

الناجون من المجزرة يتكلمون

ماهر فاخوري  / المانيا-2022م

(1)

صبرا وشاتيلا أربعون عامًا -جريمة تأبى النسيان 

في عام 1948، أو عام النكبة كما يسميه الفلسطينيون حيث أدت الجرائم والمجازر وإجراءات الطرد المستهدف التي إرتكبتها العصابات الإرهابية الصهيونية الى إنشاء "إسرائيل" وإلى لجوء حوالي 300 ألف فلسطيني إلى لبنان.  أقيمت مخيمات للاجئين الفلسطينيين في أنحاء لبنان،  وحول العاصمة بيروت حيث يوجد منها مخيمي صبرا وشاتيلا. 

اجتاحت  القوات الصهيونية الغازية في عام 1982 لبنان حتى وصلت الى بيروت وحاصرت الجزء الغربي من العاصمة اللبنانية حيث تحصن مقاتلو منظمة التحرير الفلسطينية والحركة الوطنية اللبنانية. 

بعد أسابيع من القصف الوحشي، جواً وبحراً وبراً من قبل قوات العدوان الاسرائيلية، تم التوصل إلى إتفاق بوساطة المفاوض الأمريكي فيليب حبيب ومقابله فلسطينيًا سعد صايل وهاني الحسن، يقضي بإنسحاب المقاتلين الفلسطينيين من بيروت وأن تشرف قوات غربية متعددة الجنسيات (أمريكية، بريطانية، فرنسية، إيطالية) على هذا الإنسحاب الذي إلتزم به الفلسطينيون طبعاً ولكن لم تلتزم به الأطراف الأخرى. 

كان من المقرر أن تبقى تلك القوات الغربية ثلاثون يوماً من تاريخ وصولها لضمان أمن اللاجئين المدنيين الفلسطينيين الذين بقوا في المخيمات بعد رحيل منظمة التحرير الفلسطينية. 

لكن المفاجأة جاءت بعد أسبوعين، حين انسحبت القوات المتعددة الجنسيات وذلك قبل إنسحاب "إسرائيل"، التي كان عليها بموجب ذلك الإتفاق الإنسحاب من لبنان في الأول من سبتمبر / أيلول 1982 ولكن الإسرائيليون لم ينسحبوا كما كان متفقًا عليه وأبقوا على مواقعهم حول بيروت واتخذوا من مقتل (الرئيس اللبناني) بشير الجميل في 14 سبتمبر / أيلول 1982 ذريعة من أجل التقدم الى بيروت الغربية، زاعمين وجود "2000 إرهابي" مدججين بالسلاح ما زالوا مختبئين في المخيمات.

كان الهدوء الغير عادي في يوم الأربعاء 15 سبتمبر / أيلول يسيطر على المخيمين. 

مر النهار ببطء والليل كان طويلاً جداً. 

في اليوم التالي، حوالي السادسة صباحاً، خرقت الطائرات الإسرائيلية المعتدية هذا الصمت القاتل، وأهالي المخيم وقفوا في الأزقة الى جانب الأبواب أو النوافذ ينتظرون سماع الأخبار من أجهزة المذياع (الراديو)، مهما كانت سيئة. 

حاصر الجيش الإسرائيلي مخيمي صبرا وشاتيلا بالدبابات ولم يسمح لأي شخص بمغادرة المخيم أو الدخول إليه في حين كان الإعلام المحلي والعالمي منشغلاً بخبر إغتيال الجميل. 

ووفقا لتقرير لجنة كاهان التي شكلتها "إسرائيل" للتحقيق بالمجزرة، فقط تم تكليف حليف "إسرائيل" في لبنان أي الكتائب بـ "تطهير المخيمات من الإرهابيين". 

 

في 16 سبتمبر / أيلول 1982 واليومين التاليين لذلك التاريخ، اجتاحت قوات الاحتلال الصهيوني وعصابات الكتائب المخيمات الفلسطينية في بيروت، فقتلوا واغتصبوا وعذبوا آلاف اللاجئين الفلسطينيين واللبنانيين من النساء والرجال والأطفال. 

على مدى ما يزيد عن 36 ساعة قام المجرمون بقتل الأطفال والنساء والرجال. كل هذا بتنظيم وإشراف القوات الإسرائيلية التي أغلقت المخيمات وأطلقت قنابل الإنارة لإضاءة أزقة المخيم وكانت تدعو بواسطة مكبرات الصوت سكان المخيمين الى الاستسلام: " سلم تسلم". 

فكان يتم تجميع الرجال والنساء وحتى الأطفال في مجموعات ليتم قتلهم بعد ذلك بشكل وحشي وبدم بارد. 

ساعات طويلة، لا بل سنوات طويلة من المعاناة لم تنتهي حتى يومنا هذا بالنسبة للناجين من المجزرة. 

"لقد أخبرنا الذباب عنها. كانت بالملايين هناك، أزيزها كان كما الرائحة الكريهة كادت تخبرنا عما حصل." 

هكذا وصف روبرت فيسك المشهد حين جاء الى المخيمين، حيث كان من أوائل الصحفيين الذين دخلوا مخيمي صبرا وشاتيلا للاجئين في غرب بيروت في 18 سبتمبر / ايلول 1982.

الصحفي الإسرائيلي أمنون كابليوك، الذي أنجز تحقيقاً بعد وقت قصير من المجزرة مستنداً إلى الشهادات، وتصريحات وأرشيف الجيش الإسرائيلي والتقارير الصحفية، والأدلة التي جمعتها لجنة التحقيق الإسرائيلية كاهان، ونشر نتائج تحقيقه عام 1982 في كتاب: "صبرا وشاتيلا، التحقيق في المذبحة". 

أقر كابليوك في تحقيقه أن عدد الضحايا قد بلغ ما بين 3000 و3500 وأن هناك ضحايا قد دفنوا في مقابر جماعية تم حفرها من قبل المجرمين القتلة وأكد على وجود 359 مفقوداً تم اختطافهم أحياء إلى أماكن مازالت مجهولة حتى يومنا هذا. 

مجلس الأمن أدان فوراً المجزرة الإجرامية بحق المدنيين الفلسطينيين في بيروت" (قرار رقم 521، 19 أيلول / سبتمبر 1982).

وفي 16 كانون الأول / ديسمبر 1982، أعلنت الجمعية العامة أن المذبحة هي "عمل من أعمال الإبادة الجماعية" (القرار 37/123)، وطالب بعض الأعضاء بإنشاء سلطة تحقيق رسمية للأمم المتحدة، لكن هذه القرارات بقيت حبرًا على ورق كالعادة. 

 

عدداً من الخبراء الدوليين شكلوا لجنة تحقيق دولية في انتهاكات "إسرائيل" للقانون الدولي التي تم التبليغ عنها أثناء غزوها للبنان"، وكان رئيسها السيد شون ماكبرايد، رئيس مكتب السلام الدولي في جنيف في ذلك الوقت.

 استندت استنتاجات الخبراء بشكل أساسي إلى إتفاقية جنيف الرابعة، وأكدوا أن "السلطات الإسرائيلية تتحمل مسؤولية قانونية جسيمة، كقوة إحتلال عن إرتكابها المجازر في صبرا وشاتيلا. ومن الأدلة التي تم الكشف عنها، أن "إسرائيل" شاركت في التخطيط والتحضير للمجزرة ولعبت دوراً تسهيلياً في عمليات القتل الفعلية" (ماكبرايد، 1983).

 كما وصفوا الغزو الإسرائيلي بأنه "إبادة جماعية"، واعتبر معظمهم أنه يمكن إثبات "إدعاء التدمير المتعمد للحقوق الوطنية والثقافية وهوية الشعب الفلسطيني ويشكل ذلك شكلاً من أشكال الإبادة الجماعية".

في حزيران/ يونيو 2001، قدم 23 من ضحايا مجزرة صبرا وشاتيلا شكوى ضد شارون أمام محكمة بلجيكية، واتهموه بارتكاب "الإبادة الجماعية" و "جرائم الحرب" و "الجرائم ضد الإنسانية". لكن في يونيو 2002، أعلن القضاء البلجيكي عدم قبول الشكوى، واستندت المحكمة في حجتها إلى سببين:

أولهما يجب العثور على المتهم واعتقاله في بلجيكا. لكن في لحظة المحاكمة، كان شارون يعيش في تل أبيب. 

وثانيهما وفقاً للقانون الإسرائيلي لا يمكن مقاضاة المتهم إذا كان يشغل منصباً سياسياً، وبالفعل كان شارون رئيسًا للوزراء في ذلك الوقت.

لذلك قررت مجموعة المدعين استئناف القضية أمام محكمة الاستئناف العليا في بلجيكا. في شباط / فبراير 2003، شككت أعلى محكمة في بلجيكا في الحجة الأولى التي قدمتها محكمة الصلح، وأكدت المحكمة العليا أنه يمكن رفع الدعاوى حتى لو كان المدعى عليه لا يعيش في بلجيكا، لكن محكمة الاستئناف العليا أكدت الحجة الثانية المتعلقة بحصانة شارون السياسية.

أربعون عامًا مرت ولكن الناجون من المجزرة مازالوا ينتظرون العدالة لأنهم يؤمنون ان حقوق الانسان التي نصت عليها الاتفاقات والمعاهدات والقرارات الدولية لا يمكن تجزئتها مهما طال الزمن وساد الظلم.

(2)

صبرا وشاتيلا، أربعون عامًا ـــــ لطالما حاولت دفن تلك الذكريات الفظيعة. 

قبل عشرين عاماً تمكنت من الكتابة لأول مرة باللغة الألمانية عن مجزرة صبرا وشاتيلا التي حصلت في شهر أيلول / سبتمبر من العام 1982 مضطراً وذلك بطلب من الأصدقاء الألمان. 

لم يكن ولن يكون ذلك يوماً بالأمر السهل بالنسبة لي أو للناجين من تلك المجزرة الفظيعة، الجلوس والكتابة عن معاناة مستمرة بدأت ولم تنتهي. أحداث أيلول من ذلك العام دمرت أحلام الكثيرين من أبناء جيلنا والأجيال المتعاقبة من أبناء المخيم، وزادت من تشريدنا وتشتتنا في العالم. 

 

تلك الأحداث لا تفارق مخيلتي وترافقني في حياتي أينما حللت وطبعاً دون إذن مني. كم أتمنى أن يعاقب أولئك المجرمون الذين مازالوا يرتكبون أفظع الجرائم وبشكل يومي بحق الشعب الفلسطيني وإن اختلفت تسميتهم، فهم ذاتهم السفاحون في صبرا وشاتيلا، جنود إحتلال وقتلة في جنين ونابلس ورام الله والخليل. كم أتمنى أن تكون المساواة بين البشر عملاً واقعياً يعيشه كل سكان هذه الأرض بما في ذلك الفلسطينيون وأن لا تصبح حبراً على ورق من أجل إرضاء الرأي العام العالمي وتخديره حين يتعلق الأمر بمعاناة الشعب الفلسطيني في مخيمات الشتات وتحت الإحتلال.

اليوم وفي الذكرى الأربعين للمجزرة أنشر تلك الذكريات الأليمة باللغة العربية بعد أن تم نشرها في كتيب باللغة الألمانية بمشاركة العديد من الكتاب الألمان، وتم إعادة طبع ونشر ذلك الكتيب أربع مرات وتوزيعه على المهتمين بالقضية الفلسطينية والأصدقاء الألمان بالإضافة لنشره في صحيفتين ألمانيتين. 

قد يستغرب البعض من أني لا أحب زيارة مدينة بيروت الجميلة التي ولدت ونشأت فيها. هناك يوجد الإخوة والأصدقاء وقبور الأحباء رحمهم الله، حيث كانت الثورة والصمود ومكتب الختيار وكلية الهندسة، كراج درويش ومكتب أبو جهاد، هناك أمام مبنى الجامعة العربية التي يُقابلها معرض الكرامة ولوحات إسماعيل شموط وتمام الأكحل وعبد الرحمن المزين وسليمان منصور حينها، تسأل نفسك وأنت تعبر ذلك الشارع المكتظ، هل من الممكن أن يخرج أبو إياد من تحت ركام ذلك المبنى المدمر. هناك حيث كنّا نزداد حماساً كلما سمعنا مرسيل خليفة وخالد الهبر وأحمد قعبور وسميح شقير والشيخ إمام.

حين أقترب من المخيم تتوقف الحياة لتعود الى الوراء الى تلك الأيام الرهيبة من شهر أيلول/سبتمبر 1982. فتفوح رائحة الجثث التي تنبعث فجأة وتسيطر على أزقة المخيم. أينما نظرت سترى أرملة شهيد، أم شهيد أو أخت فقدت معظم أفراد عائلتها، ولا داعي للنظر إلى الجدران التي مازالت تزينها صور الأحباب الذين قتلوا بوحشية وبدم بارد، فقط لأنهم ولدوا فلسطينيين.

كل من نجا منا من تلك المجزرة المروّعة ما زال يعاني بشكل مباشر أو غير مباشر. فتأثير المجزرة على مسار حياتنا رغم مرور أربعين عاماً لم ينتهي بعد. لا عجب أنه وبعد كل هذه السنوات مازلتُ أشعرُ بضيق كلما حاولت تجميع أفكاري من أجل التعبير عن تلك المأساة، بالرغم من بعد المسافات وكأنها حدثت بالأمس. 

ها نحن نجتمع ليلة الخميس (1982.09.16) مجموعة من الشباب في بيت الشهيد جمال سريس رحمه الله بعد مقتل بشير الجميل وخروج القوات المتعددة الجنسيات. كان من الواضح لنا، أنه يتعين علينا القيام بشيء ما، وخصوصاً بعد مغادرة جميع مقاتلي منظمة التحرير الفلسطينية بيروت وذلك بموجب الإتفاق مع فيليب حبيب. 

كانت غالبية سكان المخيم من النساء والأطفال والشيوخ. لم يكن لدينا أي من مقومات الصمود والمقاومة، لسنا سوى عدد قليل من الشباب ينتظرون مع أهالي المخيم مصيرهم المجهول. 

وزعنا المهام، وانقسمنا إلى ثلاث أو أربع مجموعات. مجموعة عليها وفي أسرع وقت ممكن الإتصال بالحركة الوطنية اللبنانية. مجموعة أخرى تعمل من أجل تجميع باقي الأصدقاء ومجموعة عليها البحث عن سبل إبلاغ قيادة المنظمة والعالم الخارجي عن وضع المخيم والخطر المحيط بنا. جمال الأخ والصديق المضيف لم يكن له الرغبة في المشاركة في أي مجموعة وأخبرنا أن ثلاثة أشهر كسائق سيارة إسعاف على خط النار اثناء الحصار كانت كافية له. وغادرنا منزل جمال في حوالي الساعة السابعة مساءً.

كانت والدتي، وأشقائي الأصغر مني سناً ينتظرون في البيت في صبرا مصيرهم المجهول كباقي سكان المخيم. كانت والدتي تحمل الهمّ أضعافاً عنا وخصوصاً بعد فقداننا لوالدي رحمه الله قبل أسابيع من المجزرة ومغادرة أخي الأكبر بيروت مع منظمة التحرير الفلسطينية، بالإضافة إلى جروحي التي أُصبت بها أثناء الحصار والتي لم تكن في ذلك الوقت قد إلتأمت بشكل جيد بعد، كان بيتنا شبه مدمر وإبن خالي الذي تم إختطافه وهو يحاول مغادرة بيروت الغربية إلى الجبل ولم يعد إلى يومنا هذا. لم يكن لدينا إمكانية مغادرة المخيم حتى لو أردنا ذلك. بالتأكيد لم يكن حال العائلات الأخرى في المخيم أفضل من حالنا.

بعد فترة وجيزة من عودتي ليلاً إلى المنزل في صبرا، ألقت الطائرات الإسرائيلية قنابل إنارة، فأضاءت أزقة المخيم طوال الليل. بين الحين والآخر كان الناس يتحدثون عن مجزرة تحدث في منطقة بئر حسن في القسم الجنوبي من المخيم ولكن لم يكن أحد متأكداً بأن ذلك ليس بإشاعة. في صباح اليوم التالي أخبرني أحد الأصدقاء أن جمال قد استشهد بعد ساعتين من مغادرتنا بيته. يا الله ما الذي حدث؟

كان الإخوة محمود وجمال موجودان في إحد بيوت المخيم في شاتيلا. عندما سمع الإثنان بالمجزرة، نزلا إلى الشارع وحاولا مساعدة الناس للوصول إلى أماكن ربما تكون أكثر أماناً. إحدى النساء حاولت مع ابنتها عبور الطريق الواصل بين الجزأين الجنوبي والشمالي من المخيم، فأطلق قناص النار عليهما وأصاب الإبنة. التي بقيت تنزف في الشارع والأم تصرخ طالبة النجدة. ساد الهدوء لفترة من الوقت. فما كان من جمال إلا ان زحف بإتجاه الفتاة محاولاً سحبها ورفعها من الشارع. وأثناء حمل الفتاة أطلق القناص النار عليه وأصابه. استطاع محمود ومن معه من الشباب من حمل جمال والفتاة وإيصالهم إلى مستشفى غزة. تمكن جمال من إنقاذ الفتاة ولكنه إستشهد رحمه الله.

استطعنا دفن جمال في نفس اليوم، بعد ذلك قمنا أنا وصديقي فواز رحمه الله بمغادرة المخيم متجهين للقاء إخوة وأصدقاء لبنانيين وفلسطينيين يسكنون خارج المخيم. في طريقنا كنا نختبئ كلما لمحنا سيارة عسكرية إسرائيلية ونركض مسرعين كلما وجدنا أنه لا حركة في الشارع، مستخدمين الطرق الفرعية قليلة الحركة. 

وصلنا الى تلك الشقة بعد ثلاث ساعات على الأقل وكنا في العادة نحتاج لساعة على الأكثر للوصول إليها. أخبرنا الإخوة عما يجري في المخيم وطلبنا منهم إبلاغ القيادة الفلسطينية والعالم الخارجي عن وضعنا. لم نتمكن من البقاء معهم فترة طويلة لأننا كنا نرغب بالعودة بأسرع وقت الى المخيم. 

في طريق العودة كان كل شيء أكثر هدوءاً من ذي قبل. وصلنا إلى صبرا حوالي الساعة 5 مساءاً. قابلنا عند مدخل المخيم بالقرب من محطة الدنا بعض الإخوة الذين قاموا بالمراقبة والحراسة، وصفونا بالمجانين لأننا خاطرنا بحياتنا وغادرنا المخيم. 

فجأة رأينا الكثير من الناس يركضون في إتجاهنا ويصرخون: 

مجزرة، مجزرة! حداد، حداد والإسرائيليون يقتلون الجميع! 

فما كان مني إلا أن ركضت في الإتجاه المعاكس. لم أفكر إلا بأمي وإخوتي. توقفت عن الإستماع إلى ما يقوله الناس، كل ما كنت أفكر فيه هو أمي وإخوتي حتى وجدتهم يركضون مع الناس. أخذتهم إلى بيت اخي وصديقي رياض. كانت الشقة على بعد حوالي 100 متر من مدخل المخيم. ثم قضينا الليل في الشارع في الجزء الشمالي ننتظر الموت. نراقب شارع صبرا الطويل وننتظر. كانت تلك الليلة طويلة جداً لا نهاية لها ومظلمة للغاية، ولكن الطائرات الإسرائيلية كانت تضيئ المنطقة بين الحين والآخر.

في صباح يوم السبت، 18 سبتمبر / أيلول، حاولنا الوصول إلى الجزء الجنوبي من المخيم. وصلنا إلى مستشفى غزة. لم نلتقِ بأحد في الطريق. لم نذهب إلى مبنى المستشفى مباشرة لأننا علمنا مسبقاً أن الإسرائيليين كانوا هناك. فتوقعنا أن يكونوا قد إحتلوا المستشفى. 

تابعنا سيرنا الى عمق المخيم فوجدنا جثثاً تتزايد كلما تعمقنا داخل الأزقة. بحثنا عن الأحياء فلم نجد. وفجأة نادت علينا مجموعة من المسلحين بصوت عال باللهجة اللبنانية مستخدمين كلمات نابية. لم نفكر كثيراً بالرد بل بالإنسحاب الفوري والسريع فعدنا أدراجنا.

حوالي الساعة 11 من صباح ذلك اليوم، جاءت سيارة بيضاء، ونزل منها شخص أوروبي وأبلغنا أنه دبلوماسي. أخبرناه بما سمعنا وشاهدنا. طلبنا منه أن يأتي معنا إلى عمق المخيم فرأى بعض ما شاهدناه من قبل. كان ذلك كافياً بالنسبة له لمغادرة المخيم. بعد ساعات قليلة، جاء العديد من الصحفيين. بدأنا بإستعادة وعينا ولكن ببطء.

نزلنا جميعاً مع الصحفيين إلى داخل المخيم ندلهم على أماكن الجثث التي تمكنا من رؤيتها ونترجم لهم معاناة الناس. كشفنا لهم الجثث، التي حولها القتلة إلى قنابل بوضع عبوات ناسفة تحتها. جثث فوق جثث  متراكمة على اليمين وعلى اليسار، داخل البيوت وخارجها وفي كل مكان. 

بعض الضحايا قُتلوا بضربة فأس في الرأس. قام بعض القتلة بقطع أرجل وأيدي وأجزاء أخرى من أجساد الضحايا. الكثير من الناس دفنوا أحياء تحت الأنقاض أو في مقابر جماعية. نساء أُغتصبن قبل إطلاق النار عليهن وقتلهن.

رغم أن رائحة الجثث جعلت التنفس صعباً مع ذلك إنتشر الناجين بين الأزقة يبحثون عن الأقارب والمعارف. 

امرأة تبحث عن إبنها الذي لم يعد، وأخرى تبحث عن أختها الحامل، لكنها وجدتها بين الجثث. إمرأة فقدت عائلتها بأكملها بدأت فجأة بالغناء وأخرى تصرخ وتسأل عن الحكام العرب.

لماذا قُتل هؤلاء وهم غير مسلحين؟ 

كانوا يؤمنون بالوعود التي قطعها المجتمع الدولي للرئيس ياسر عرفات بأن سكان مخيمات اللاجئين الفلسطينيين في بيروت سيكونون في أمان بمجرد مغادرة مقاتلي المنظمة!

 لماذا يجب علينا نحن الفلسطينيون أن نعاني دائماً؟ 

والعالم كله يراقب ولا يتحرك إلا حين يرى دمنا يسيل؟ 

حتى كبار السن من سكان المخيم والذين عاشوا وعانوا من المجازر التي ارتكبتها العصابات الصهيونية في فلسطين "قبل وبعد إنشاء دولة إسرائيل" مثل دير ياسين أو كفر قاسم وغيرها، لم يجدوا أثناء حياتهم إجابة لهذه الأسئلة. 

والقتلة أحرار، وما زالوا يمارسون القتل في جنين ونابلس وطولكرم ورام الله وغزة الصامدة.

  ماهر فاخوري / ألمانيا -2022م

البوابة 24