البوابة 24

البوابة 24

فسيفساء الشهداء... عندما تكتمل الصورة

بقلم: د. سرمد فوزي التايه
في فلسطين كل شيء ليس كمثلة شيء! كل شيء لا يُشبه أي شيء! كل شيء مُغاير عن كل شيء! فكل ما فيها مُختلف؛ الحُب مُختلف، العشق مُختلف، الوفاء مُختلف، الزهور مُختلفة، القبور مُختلفة، البطولات مُختلفة، التضحيات الجسام مُختلفة، والشهداء أيضاً فيها مُغايرون ولا يُشبهون غيرهم من العالمين وهم ليسوا ككل الشهداء!.... باختصار كل شيء فيها مختلف.
على الرغم من أنَّ الأرض الفلسطينية كانت ما زالت وما فتئت حُبلى وولاّدة بالشهداء الذين ظلوا يُسطّرون ببذلهم الغالي وعطائهم مُنقطع النظير أسمى آيات العطاء والجود والفداء لثرى وطنهم السليب الجريح المكلوم دون أن يكون ضمن حساباتهم وأجنداتهم الشخصية أي شيء سوى حُبّ الله والوطن، مُقدّمين أنفسهم رخيصةً من غير تجنيد اجباري أو أوامر قسرية جبريه على مقصلة الوطن بكل رضى وطيب خاطر؛ لتراهم يفيضون بأرواحهم الزاكية الزكية من غير أي اعتبارٍ لمنصبٍ أو وظيفةٍ أو جاهٍ أو سلطان؛ فقد تخلّى هؤلاء الشهداء عن وظائفهم المرموقة، و"برستيجهم" البرّاق، ومناصبهم العالية من أجل أن تكون دماؤهم وقوداً يُنير طريق أُمّتهم وأهليهم تارة، وبركاناً يحرق قلوب أعدائهم ومُغتصبي أوطانهم تارةً أخرى، ضاربين بعرض الحائط كل ما سوى ذلك من متاعٍ وهم يعلمون يقيناً انما الحياة الدنيا متاع الغرور.
يَطلُّ علينا اليوم الشهيد المُعلم محمد كامل الجعبري ابن مدينة خليل الرحمن وهو مُمتشقاً سلاحه الرشاش بعدما امتشق قلمه وأصبع طبشورته وراح يخط بهما حدود خارطة وطنه الذي ينشد ويُريد، رافضاً وجود كل من يُكدّر صفو بلده أو من يبثُّ السموم فيه فيعطب هواءه! وبعد أن أكمل رسالته على وجه الكمال والتمام في أرجاء وأجواء مدرسته التي أحب، وبعد أن خَطَّ شعاراته الصادقة في عقول طلابه، وبعد أن أنهى رسم معالم وطنه كما يحلو له خاليا من الغربان والخفافيش، أراد أن ينتقل بطلابه من الدروس النظرية إلى الدروس العملية ليُخبرهم بأدواته المتمثلة بدمه ورشاشه ورصاصاته المعدودة أنَّ ما كان يقوله نظرياً لا بد أن يتم ترجمته عملياً! علَّه يُثبت لأبنائه عبد الرحمن وسارة ولفتيانه الذين كانوا يتتلمذون على يديه أن القول دون الفعل لا محل له من الإعراب، وأنّ النصوص في الكُتب المُقدسة تبقى دون روح ما لم تهبط من بين دفات أمهات الكتب وتتجسّد على أرض الواقع، وأنَّ المُعادلات الفيزيائية والكيمائية والرياضية تبقى خاويةً جوفاء بلا معنى إن لم تتحول إلى معانٍ ذات قيمة.
لم يكن الشهيد محمد كامل الجعبري أول من خطَّ هذا الطريق وسار على هذا المسار بكامل حُبٍ ورضى وقناعة واختيار! ففي العامين الأخيرين على سبيل المثال لا الحصر سبقه الكثير ممن خلعوا أثواب وظائفهم طواعيةً وراحوا يبحثون عن المجد والخلود والنعيم السرمدي دون أن يكون في قلوبهم مثقال ذرة من أسى على ذلك المجد الزائف! فقبل أيام قلائل، أقدم الضابطان الشهيدان عماد رشيد ورمزي زبارة من ضبّاط الدفاع المدني في مدينة نابلس جبل النار بإسلام روحيهما رخيصة لأجل عيون بلدهم دون أن يلتفتا للرُّتب العسكرية وتداعياتها، كما قَدَّم الشهيد الطبيب الدكتور عبد الله الأحمد (أبو تين) روحه قرباناً على مذبح جنين القسام، وليس ببعيد من هنا، فقد أروت الشهيدة الصحافية شيرين أبو عاقلة أرض جنين بدمائها المقدسية المُقدّسة، وها هي الشهيدة الدكتورة مي عفانة المُحاضرة في جامعة الاستقلال تروح بذات الاتجاه وتجود بنفسها على شُرفات القدس الحبيبة وهي بذلك من الراضين، أما الشهيد الدكتور عيسى برهم وكيل النيابة، والمُعلم زكريا حمايل، والمُدير بمحافظة القدس فواز حمايل، والطالبان محمد سعيد حمايل وأحمد زاهي بني شمسه، وفني المياه شادي الشرفا، والدّهان محمد خبيصة، والنّجّار جميل خبيصة، والعامل عماد دويكات قد غمسوا فتائلهم بدمائهم لينيروا أسرجتهم في سماء بيتا مُنافسين بذلك قمر الدُجى ونجم سهيل!
لم تكن الشهادة في فلسطين لتقتصر على فئةٍ دون غيرها، أو صاحب وظيفةٍ دون سواه؛ فالكل في الفداء سواء، والجميع في البذل سناء، وعمومهم في التضحية انداد؛ فالطفل، والشاب، والكهل، والمرأة، والطبيب، والمُعلم، والمُهندس، والشيخ، والعامل، والحلّاق، والتاجر، والمُسعف، والمُمرض، والأسير بالأسر، والأسير المُحرر بعد الأسر، والمُقاوم بالحجر، والمُقاوم ببندقيته، والمُدافع بريشة ألوانه والمُقاتل بقلمه، كلهم في ذلك سواسية وليس لأحدٍ فضلٍ على الآخر. فالمُتأمل بلوحات صور شهداء فلسطين الفسيفسائية الجميلة يرى كم هي فريدة ونادرة من نوعها ولا يوجد لها أي شبيهٍ أو ندٍّ أو مثيل! فقد تمازجت ألوانها الوظيفية والمهنية، وتداخلت خيوطها الجغرافية والتاريخية، وتآلفت مضامينها العُمرية والعائلية بصورةٍ عجيبةٍ وغريبةٍ أوحت بحُسن وروعة المظهر والجوهر، حتى صار يصعُب على كل الفنانين والرسامين والحاكة والمُبدعين الإتيان بشبيه لها أو نظير؛ فقد تناغمت وتزخرفت وانسجمت مكوناتها وجزيئاتها بطريقةٍ مُذهلةٍ أوحت لناظرها والمُتعمّق بها بسرِّ جمالها الأخاذ الذي ليس كمثله شيء وليس كنظيره جمال ولا نقاء ولا بهاء.
البوابة 24