مدائِنُ الحُضورِ والغِياب

شعر : عبد الناصر صالح

سَتَجيءُ ذاكِرةٌ ونَعبُر ضِفَّةً أُخرى،
إلى جِهةِ البَنَفسجِ
سوف نَعبُر ـ مُثْقَلينَ بجُرحِنا المَنسِيِّ ـ
صوبَ البحرِ،
لا ظِلٌّ سَيَحرُسُنا إذا انحرفَ السّبيلُ بِنا
وأجْهَضَ شَمْسَنا ـ في عزِّ صَبْوَتِها ـ
المدى الثَّلجِيُّ،
مُقفِرَةٌ مآذنُ صَوْتِنا،
جَرْداءُ إلاّ من حجارتِها
فهل يُجدي البكاءُ المرُّ حين تُصادَرُ الكَلِماتُ ؟
حينَ يجفُّ في صَخَب المتاهةِ
حِبْرُنا النَّبَويُّ ؟
ها فَقَدَتْ عباءَتَها الفُصولُ
وقَطَّعَتْ أَثداءَها،
مُدُنٌ،
شَرِبْنا خَمْرَ كَوثَرِها
وهيّأْنا لِوُجْهَتِها النّهارَ
فكُنْ مَعي..
وَقَفَ الكلامُ على أَصابعِهِ
وهيّأَ للرَّذاذِ الحُلْوِ بِذْرَتَهُ،
خَلَعْتُ عليهِ من جَسَدي قُلُنسُوَةً
من الطّينِ البَهيِّ
وهلَّ نجمٌ بين مأذنتينِ
يُقرؤني السلامَ
ورقَّ عصفورٌ من الأَلقِ المُدَجّنِ
وانجَلَتْ طُرُقٌ مُغَلّقَةٌ
تَنوءُ بحَمْلِها.
* * *
بيدي عصايَ وبعضُ أُغنيتي
فهل سَيَؤمُّني نَخْلُ الجزيرةِ
إن نَزَفْتُ دمي
وأَطلَقْتُ العَنانَ لآيَتي في البحر ؟
.. قلبي سَفَرْجَلَةٌ
وجُرْحِيَ غائرٌ
ومدائِنُ الأَبَنوسِ تَزْحفُ نحوَ هاويةٍ
وتَرقُدُ للصدى
مدنٌ / قيودٌ / غربةٌ / وسواتِرٌ بَشَريّةٌ
لا تَكْتَسي باللّحمِ
تُشْهِرُ عُرْيَها للنّاظِرينَ
فَكُنْ معي..
في الجرحِ مُتَّسَعٌ لهاوِيَتَيْنِ
من أَثَرِ النَّشيجِ
فلا مفرَّ من الدُّجى لولادةِ المعنى
ولا لُغَةٌ سَتُنجِبُ للرّؤى عَيْنَيْنِ
نُؤوي تحتَ بُرْدَتِهِا
وتُؤنِسُنا إذا ما لَفَّنا عَدَمٌ.
* * *
سأقولُ للزّمنِ الذي يَمْضي سُدا
هّيء لنا من أمرِنا رَشَدا.
عمّا قريبٍ سوف يُدْرِكُنا الحَصى
والعمرُ يَمْضي مثلما تمضي المَها لِشِراكِها
والمَرْكِبُ الخَشَبيُّ يَحْصُدُ يُتْمَنا
شيئاً
فشيئاً
يبدأ الإعصارُ رحلتَهُ وتختبيء الحروفُ،
أَكُلّما اقتَرَبت خيولُكَ من دَمي أبكي ؟
فما جدوى مبارَزَةُ الدُّيوكِ
إذا اكتَوَيْنا في الهَزيع بِثلْجِ غُربَتِنا ؟
وما جدوى مصالحةُ الرّدى إن شاخَتِ الرُّؤيا ؟
كأنّي كُلّما احتَرَقَ الهواءُ على النَّوافِذِ
أستَجيرُ بِغَيْمةٍ عَرْجاءَ
تَسْقي ما تَناثَرَ من شظايانا
وتَرْفو نايَنا المَهْدورَ
ما بَرَحَتْ تُسائِلُني الشَّوارِعُ
عن خُطى الآتينَ من ماضٍ يحاوِرُ نَفْسَهُ
ويَفُكُّ عُزْلَتَهُ على أنقاضِ ذاكرةٍ تَئِنُّ
فَكُنْ معي..
يجتاحُنا أَلَقٌ وحناءٌ
ورعشةُ موجةٍ حبلى
فما جدوى التَّيَمُّمُ إن ظَمِئْنا ؟
بينَنا بحرٌ على سُجّادِهِ يَتَرَقْرَقُ المعنى
ويُثمرُ،
كُنْ معي
لي فيضُ أغنيةٍ تَنِزُّ
فَمَن يُقاسِمُني انفجارَ البَرْقِ ؟
ها لُغتي تَزِخُّ جراحَ شَهْوَتِها
وتُشْعِلُ في وَداعةِ راهبٍ قِنديلَها الزّيتيَّ
تعبرُ ضِفّة الأَرَقِ الحَثيثِ
إلى مواجِدَ تَأْلَفُ التَّرتيلَ
هل لا زلتَ مَشْدوهاً بأُفْقٍ زائفٍ ؟
أم أَنّ جَمْهَرَةَ النُّحاةِ تَعَثّروا
في فهمِ ذاكرةٍ تُرَمِّمُ فِتْنَةَ الغاباتِ ؟
هاك دمي..
مُتَلَفّعاً بحرارةِ الأمطارِ
هاك دمي..
فاملأ حروفَكَ ما استَطَعْتَ
سيُنجِبُ المعنى إذا انبَلَجَتْ عَباءَةُ شَمْسِنا
وأذاب بَوْحُ نَشيدِنا غَبَشَ المَجَرَّهْ.
********
طولكرم /فلسطين

البوابة 24