البوابة 24

البوابة 24

الخروج من المخيم*

خليل الصمادي.jpg
خليل الصمادي.jpg

خليل الصمادي

فشلت كل محاولات المصالحة وازدادت الأحوال سوءًا في المخيم ، وأخيرًا اقتنع الحاج أبي سامح بالخروج من عرينه الذي بناه بعرق جبينه ، ولولا الجوع القاتل لما خرج من المخيم الذي وطئه من منتصف خمسينات القرن الماضي ، فرجل بعمر الزيتون والسنديان والذي شارك في حروب فلسطين وجرح فيها وكما شارك في حرب 67 وببعض عمليات المقاومة الفلسطينية أيام عز شبابه لم تخفه طلقة قناص أو قذيفة هاون أو صاروخ محلي الصنع ، كان الشيخ معارضًا للخروج، يحث الناس على البقاء، يقف في شارع اليرموك يوم النفرة الكبرى يوم خرج عشرات الآلاف دفعة واحدة منذ فجر هذا اليوم شديد البرودة مناديًا بأعلى صوته :

" يلي بيطلع من داره بقل مقداره"

" لو ما طلعنا من فلسطين لكنا ببلادنا" وهكذا.

ولكن للصبر حدود، فكل يومٍ يزداد الوضع سوءًا فقد اشتدَّ الحصار على من بقي صامدًا في المخيم، فالجماعات المسلحة أحكمت سيطرتها في الداخل، والفصائل والأمن أحكموا إغلاق المخيم من الخارج وتنظيم حركة الدخول والخروج.

الأستاذ خالد الابن الأوسط للحاج كان حظه أفضل من غيره فقد استقر ببيت أهل زوجته بحي المهاجرين الذي فرغ من يومين بسبب سفرهم للقاهرة، كان يدخل كل يومين أو ثلاثة ببعض التموينات الضرورية تحت وابل الرصاص معرضا نفسه للخطر، فربما قد اعتاد على ذلك فقد أدى خدمته الإلزامية على الخط الفاصل بين بيروت الغربية والشرقية ما بين ساحة رياض الصلح والنجمة والشهداء وشارك قتال القوات الصهيونية أثناء اجتياحها بيروت فلن يخيفه ما يعتبرها " عرضية "

أحسَّ خالد بالتضيق في حركة الدخول والانتظار لساعة أو أكثر وعدم السماح بدخول المواد التموينية إلا بالنذر اليسير فممنوع أكثر من ربطة خبز، وأكثر من نصف كيلو بندورة وحتى طبق البيض كان يُكسَر نصفه ، ومر شهر وشهران والحالة تزداد سوءًا فخرج الكثيرون من المخيم إلا أن أبا سامح كان يرفض الخروج.

وأخيرًا صدرت القرارات بأن الحركة ستكون باتجاه العاصمة حتى آخر الشهر وبعدها سيقفل المخيم وكلُّ واحد مسؤول عن نفسه.

وصل عدد ضحايا الجوع للعشرات، فالناس أكلت أوراق الشجر وألواح الصبار، فالخروج صار من الواجبات الشرعية .

المهم اقتنع الشيخ بالخروج واتفق مع خالدٍ أن يلتقيا صباح اليوم التالي عند بوابة المخيم ، وذهب كل كلامه الذي كان ينصح به الناس سدًى فالأمر لا يطاقُ أبدًا.

وقف العجوز - الذي بلغ الخامسة والثمانين من عمره - على باب المخيم يتكأ على عصاه القديمة وعلى شريكة حياته الثانية التي بلغت السبعين من خريفها ، عيناه الغائرتان تتجهان صوب للمخيم وكأنه ينظر إليه نظرة مودع، أخذ نفسًا عميقًا ثم زفره بالحوقلة والاسترجاع، وكأنه يودع حبيبًا يئس من رجوعه، اقترب منهما خالد مقبلا يديهما ومعانقا لهما قائلا:

الحمد لله على سلامتكما

الله يسلمك يا خالد ، لماذا غلبت نفسك وجئت هنا ، أنا بدبر حالي.

ولو يا أبي إذا ما خدمتك فمن أخدم؟

ما كان من الشريكة إلا أن تخفف من وقع الحدث بقولها:

كلها يومين أو ثلاثة ونرجع.

تعرف في قرارة نفسها أن المشوار يطول وقد لا تكون رجعة قبل عشر سنوات، ولا في حياة زوجها أو في حياتها؛ لكنها أحبت أن تخفف من قسوة المشهد .

قبل أن يصلوا إلى سيارة خالد التي ركنها بالقرب من ساحة البطيخة بين جامعي البشير والماجد التفت الحاج نحو المخيم وزفر بجملة اختلطت :

هذه النكبة أصعب من نكبتنا عام 1948

ظل خالد صامتًا فلم يشأ أن يأخذ ويعطي بهذا الشأن فقد لا حظ أن صوت والده متهدِّجًا فأحسَّ أن عينيه تحبس عبرات غالية، فأطرق أرضًا فلم يقدر أن يحدق فيهما خجلا وأدبًا، فأب عجوز يترك وراءه مبنىً مكونًا من أربعة طوابق وكل طابق من شقتين يقيم فيها ذكوره الستة وهو ليس بحاجة أحد منهم فهو يقتات من راتبه التقاعدي ومن كراء المحلات في الطابق الأرضي والتي تعادل ضعفي راتبه، من هذا المكان زوَّج أبناءه الستة وبناته الثمانية ، وترك مكتبةً ظلَّ يجمع فيها الكتب مذ وطئت أقدامه دمشق مكتبة هجمت برفوفها وخزنها الغرف الثلاث والصالون وحتى على أطراف المطبخ والشرفة.

آه يا حاج إلى أين ستكون وجهة سيرك في هذا اليوم المشهود، وهل ستعود بعد أيام أو أسابيع كما كنا نواسي أنفسنا بهذه التخديرات أم أنك ستسطِّر نكبة أخرى .

خذني يا خالد على خان الشيح ، عند سامح شقيقك الكبير، كي أهنأه بخروج ولديه وحفيديه من السجن وبعدها خذني إلى قدسيا عند أخيك الصغير سمير فقررت مع خالتك أن نسكن عندهم ونساهم في أجرة البيت .

وفي مزرعة نائية من خان الشيح كان الاستقبال جميلا ومؤلمًا في الوقت نفسه ، كان الحشد كبيرا فسامح هذا الذي ولد في رحلة اللجوء الأولى استقر مع زوجته وأولاده وبناته وأحفاده وقد بلغوا العشرين في مزرعة نائية لصديق له مهاجر من عدة سنوات إلى فرنسا، دكتور في الفيزياء، وهناك أحضروا الحلاق ليهذب له لحيته التي طالت كثيرًا في الحصار ، وبعد تناول الغذاء وأمور المخيم والحرب والمستقبل أصرَّ أن يذهبا عند الابن الأصغر في قدسيا التي وصلها ليلا بالرغم من وعورة الطريق لا بسبب الحفر بل بسبب القذائف والطلقات الطائشة .

كانت ليلة ساخنة بالأحداث برغم برودة الطقس وهطول الأمطار، لم يستطع أداء صلاة الفجر بالمسجد بالرغم من سماع صوت المؤذن فقد عذر نفسه بثلاثة أعذار أولها لا يعرف مكان المسجد، والجو شديد البرودة والمطر " صلوا في رحالكم " ، والتعب الذي أنهكه من مشوار الأمس البغيض، صلى في البيت ورجع لفراشه الدافئ .

عند سماع أذان الظهر كان الجو صحوًا، والسماء صافية، طلب من حفيده أن يدلَّه ويصحبه إلى أقرب مسجد فامتثل الحفيد الصغير للأمر ومشى مع جده مخترقا الأزقة والحارات وأثناء مروره من وسط السوق بالرغم من أنه لا يعرف أحدًا من أهل هذه البلدة فقد طرح عليه السلام عدد ممن يعرفونه بالمخيم ؛ أبوسعيد بائع الخضار الذي كان بالقرب من موقف المؤسسة صاح بأعلى صوته: أهلا حاج طمني عنك؛ وأبو رضوان بائع الفلافل الذي كان بالقرب من مدرسة الأونروا صاح من أمام مقلاته على الرصيف: شرفت قدسيا حج أبو سامح وهرع نحوه بقرصين من الفلافل كانا من نصيب الحفيد، فاليوم يوم خميس فقد اعتاد الحاج صيامه مع الاثنين أكثر أيام السنة ، وما أن سار خطوتين حتى رأى الحاج علي الذي كان يملك محلا كبيرا لبيع الأدوات المنزلية " العصرونية" يبيع ربطات من الخبز، فانسل الحاج وحفيده متخفين حتى لا يحرجه.

بعد الصلاة سأل الجد حفيده :

- أليس هناك طريق للبيت دون المرور بالسوق؟

- بلى يا جدي ولكنه بعيد!

- وحتى لو كان بعيدًا أريد أن ترجعني منه !

- حاضر ياجدي

رجعا وفي منتصف الطريق شعر الجدُّ بالتعب، فجلس على مصطبة تطل على مكتب الخير العقاري، وما فتئ أن يرتاح قليلا إلا وخرج أبو الخير ينادي بأعلى صوته:

- عمو ، افرئنا بريحة طيبة ، هذا محل رزق !

حمل أبو سامح جسمه المتعب متثاقلا ولم ينبس ببنت شفه بل مد عكازه وتابع سيره مع حفيده ، وما أن دخل البيت وقد لاحظ الجميع كآبته فسألوه عن السبب فلم يتكلم ولولا الحفيد الصغير لبقي السبب طي الكتمان، قال الشيخ في حدةٍ : اتصلوا بخالد كي أبيتن عنده بحي المهاجرين أو يرجعني عند سامح ، والله لن أبيتنَّ بهذه القرية الظالم أهلُها ، وأخبروه أنْ يحجز لنا تذكرتين على أقرب رحلة للقاهرة فقد علمت أنَّ بها رئيسًا جديدًا لم يظلم عنده أحد.

وتابع قولته الشهيرة :

" يلي بيطلع منى داره بيقل مقداره "

* نص من رواية " الطريق إلى هولندا" قيد المراجعة .

البوابة 24