بقلم: د.سناء أبو شرار
تسافر بعيداً عبر الأدب وتغرق عميقاً عبر التكنولوجيا ما هي العلاقة التي تربط الأدب بالتكنولوجيا؟ وإن وُجدت هذه العلاقة ففي أي أطار يمكن التعرف عليها؟ العلاقة بينهما تبدو قوية على صعيد القدرة على نشر المقالات والروايات والتعرف على كتابات عالمية بعدة لغات، ثم الاستعمالات التي لا حصر لها فيما يتعلق بالكمبيوتر أو وسائل التواصل الاجتماعي. ولكن هناك تنافر وتباعد لا يمكن تجاهله بين هاذين العالمين على صعيد الثقافة الفردية والمجتمعية، لقد أفرزت التكنولوجيا جيل من المراهقين والشباب بل ومن متقدمي السن الذي يستمدون ثقافتهم من الشاشات الإلكترونية، وربما لعدة سنوات لم يقرأ أياً منهم كتاباً واحداً، فعالم التكنولوجيا عالم جذاب سريع وديناميكي ولكنه وبنفس الوقت يترك الروح البشرية خاوية من المعنى عقيمة الأفكار وبليدة المشاعر.
لا يدرك أولئك الذي أصبحت التكنولوجيا مصدر ثقافتهم وتسليتهم بل والتخفيف عن همومهم أنهم يؤجرون حياتهم ولكن لا يعيشونها، أنهم يهربون من مشاكلهم ولكن لا يجدون حلول لها، فهذه الشاشة تسحب الأفكار والطاقة إلى عالم فوضوي مشتت ممتلئ بالصور والكلمات والأحداث التي فعلياً لا أهمية لها على الصعيد الفردي بل والمجتمعي، فهي توخي بانها مهمة ويشعر من يتابعها أنها جزء من حياته ولكن الواقع هي أنها غريبة عنه، بعيدة عن مشاعره وأنها تنقله من صورة إلى أخرى ومن خبر إلى آخر دون مساحة للتفكير ولا لرد الفعل ولا للتحليل.
لقد مارست جميع المدراس التعليمية تدريب الطلاب على التحليل، ولكنها تقف الآن شبه عاجزة على تعليم الطلاب هذه المهارة الهامة في الحياة، لأنهم فقدوا أو على وشك فقد هذه القدرة بسبب الكم الهائل من الصور والأخبار التي ينظرون إليها كل يوم والتي تخترق أجهزتهم الإلكترونية ثم عقولهم برغبة منهم أو بدون رغبة. والأدب من ضمن المجالات التي تأثرت بشكل كبير بعالم التكنولوجيا، ليس على صعيد التطور التقني ولكن على صعيد فقد الاهتمام التدريجي والبطيء ولكن الثابت بالأدب، فكيف للأدب أن يجد له مكاناً في عالم تُغلق به المكتبات، ونسبة مشتريات الكتب الأدبية في نقص مستمر.
والأخطر من تدني مستوى القراءة هو تدني مستوى الاهتمام بالأدب بحد ذاته، وأن تُترك مساحة الأدب الراقي الذي يهذب الذات البشرية ويُلقي الضوء على معاناة الفرد أو الجماعة بل ويسلط الضوء على مشاكل هامة في المجتمع أن يتم احتلال هذه المساحة بالأخبار التافهة وأخبار الفن والرقص والأفلام؛ أن يصبح الأدب حديث الغرباء في عالم لم يعد يستعمل جمالية الألفاظ ولا ينتقي الكلمات ولا يهتم بالتعبير عن أعماق الذات. الابتعاد عن الأدب هو رؤية الحياة بسطحية المادية وجفافها، وأن نعتقد أن الحل لكل المشاكل هو بالمادة والملكية وننسى أن أعمق مشاكل الإنسان ليست في المال بل بفقده لهويته الإنسانية ولمعرفته العميقة بنفسه، فليس المال ما أنقذ الفرد والشعوب من الأزمات بل البنية النفسية والثقافية والأدبية التي تم تأسيسها بأي مجتمع، وأي مجتمع ضعيف البنية النفسية والأدبية لا يمكن أن ينهض مهما أمتلك الملايين من الأموال، وكذلك الفرد الهش المهترئ الذات والجاهل بحكمة الحياة والفاقد التذوق للأدب لا يمكن أن يكون انسان متميز ويتمتع بالقدرة على التأثير بمن حوله أو إعادة بناء نفسه بعد الأزمات. الأدب وإن كان شفافاً رقيقاً إلا أنه يخلق روحاً صلبة ونفساً مدركةً لهدفها في الوجود وشاعرة بمعاناة غيرها وقادرة على التطور والتطوير.