اللغة والإدراك

بقلم: معاذ جابر
ـ بين هارون الرَّشيد وامرأة من بني بَرْمَك ـ
روي أنَّ امرأةً من بَني بَرْمَك دخلت على هارون الرَّشيد بعد نكبتهم،
وعنده جماعةٌ من وجوه أصحابه، فقالت له: يا أمير المؤمنين: أقرَّ اللهُ عيْنكَ، وفرَّحكَ بما آتاكَ، وأتمَّ سعدكَ، لقد حكَمْتَ فقَسَطتَّ، فقال لها الرَّشيد: مَن تكونين أيَّتها المرأةُ؟
فقالت: أنا من آلِ بَرمَكٍ، ممَّن قتلتَ رجالَهم، وأخذتَ أموالَهم، وسلَبتَ نوالَهم.
فردَّ هارون الرَّشيدُ: أمَّا الرِّجالُ فقد مضى فيهم أمر الله، ونفذ فيهم قدَرُه، وأمَّا المالُ فمردودٌ إليكِ، فلمَّا خرجتْ، سأل أصحابه: أتدرون ما قالت المرأةُ البَرمَكيَّةُ؟ فقالوا : ما نراها قالتْ إلَّا خيرا. فقال الرَّشيدُ: ـ وقد عهد عنه الفهمُ وشدَّة الذَّكاء والبلاغةُ  في القوْلِ ـ ما أظنُّكم فهمتم مَقصدَها، فأمَّا
قوْلُها: "أقرَّ الله عيْنَك" أيْ أسكنها عن الحركة، وإذا سكنت العيْنُ عن الحركة عمِيَتْ.
وأمَّا قوْلُها: "فرَّحكَ بما آتاك" فأخذَتْه من قوله تعالى: "حتَّى إذا فرِحوا بما أُوتوا أخذناهُمْ بغتةً"
وأمَّا قوْلُها: "أتمَّ اللهُ سَعدَكَ" فأخذته من قوْلِ الشَّاعر:
إذا تـمَّ شَيْءٌ بَـدا نـقْـصُهُ  تَـرَقَّـبْ زوالًا إذا قيلَ تَـم
وفي قولِها: "لقد حَكَمْتَ فقسَطتَّ" فأخذَته من قوْلِ الله تعالى: " وأمَّا القاسِطون فكانوا لجهنَّمَ حَطَبا"
فتعجَّب الحاضرون من بلاغة المرأة البَرمَكِيَّة، ومن شدَّة فِطنة الرَّشيد.

 

البوابة 24