بيتا.. البلدة الثائرة عبر التاريخ

د. سرمد فوزي التايه
تُعَدّ بلدة بيتا التي تقع جنوب مدينة نابلس من أشرس القرى والبلدات الفلسطينية وأكثرها حضوراً على الساحة النضالية في الضفة الغربية في فلسطين المُحتلة منذ تكالبت على هذه الرقعة الجغرافية المُقدسة القوى العاتية العادية مطلع القرن المنصرم؛ فقد كان لها حضورها المُشرِّف، الناصع البياض، المُنير عبر جميع مفاصل الحركة الوطنية التَحرُّرية منذ أكثر من مئة عام مضى حتى يومنا هذا!؛ حيث سجَّلت هذه البلدة العصيَّة على الانكسار حُضورها الباكر في شتى المعارك وفي جميع الميادين غير مقتصرة على ما كان على ثرى ترابها حصراً؛ فقد شارك أبطالها في جميع الثورات والوقعات وميادين القتال والمقاومة منذ فجر التاريخ النضالي الفلسطيني وعلى امتداد الجغرافيا الفلسطينية في أرض فلسطين التاريخية!، فقدَّمت قرابينها رخيصةً فداءً للوطن الغالي دون نظرة أسف ولا ندم أو تأفُّف، ولا بعين مصلحةٍ شخصيةٍ ذاتيةٍ فِئويةٍ ضيقة؛ فكان هناك ستٌ وستون مشكاةً فيها ستٌ ستون مصباحاً كأنهم كواكب دُرّية يُسرجون من زيت شجرةٍ مباركةٍ زيتونةٍ لا شرقيةٍ ولا غربيةٍ يكاد زيتها يُضيء ولو لم تمسسه نار، فكانوا نوراً على نور، يهدي الله بنورهم من يشاء، ويحرق بنارهم من يشاء.
لقد تمّ تسجيل مشاركة أبناء بيتا الثورة في أول وقعة في تاريخ هذا البلد المتميز بأبنائه في عشرينات القرن المنصرم بدايةً؛ فقد ارتقى أول شهيد منها في منطقة زعترة بين نابلس ورام الله في العام 1921م، فيما استُشهِد الثاني إعداماً بحبل المشنقة في سجن نابلس في العام 1934م، تلاه آخر تمّ إعدامه أيضاً في سجن عكا سنة 1936م، وآخر استشهد في السنة نفسها في معركة ضدّ القوات البريطانية جَرَتْ على أراضي قرية بيت فوريك قضاء نابلس، ثمّ شارك ثوّارها في وقعة دوما سنة 1937م، واستُشهِد هناك أربعة من خيرة شبابها، ثمّ في سنة النكبة في العام 1948م استُشهِد واحد من أبطالها في معركة المزار قضاء جنين، وآخر في معركة الدفاع عن يافا، وآخر استُشهِد في الطريق بين نابلس وطولكرم. وفي سنة النكسة في العام 1967م استُشهِد أربعة في أثناء عبورهم نهر الأردن خلال عودتهم من مهجرهم لاحتضان ثرى وطنهم فاحتضنهم هذا الثرى، وأيضاً استُشهِد ثلاثة أبطال من أبطالها خلال المعارك التي خاضها الجيش العربي الأردني دفاعاً عن مدينة القدس، وفي السنة ذاتها استُشهِد أحدهما في معركة خاضها رجال المقاومة الفلسطينية على أراضي قرية الشيوخ قضاء الخليل، فيما استُشهِد بطل آخر في معركة جبل القرنطل في أريحا وبطل آخر في مواجهة مع الجيش الإسرائيلي في معركة وادي القلط في أريحا أيضاً في العام 1968م، وفي سنة 1969م استُشهِد أحدهم في معركة على الحدود السورية الإسرائيلية، وفي أحداث أيلول الأسود في العامين 1970م و1971م استُشهِد أربعة من أبنائها (رجلان وامرأتان)، وفي سنة 1976م استُشهِد خمسة من أبنائها البررة؛ أربعة في معارك تل الزعتر في بيروت، وآخر في العراق، وفي سنة 1982 استشهد فدائي من أبنائها اثناء الاجتياح الإسرائيلي لبيروت، وفي العام 1984م استُشهِدت إحدى زهراتها على يد جواسيس ومرتبطين مع الاحتلال الإسرائيلي اغتيالاً في مستشفى رفيديا بنابلس، وفي الانتفاضة الأولى، وتحديداً في أحداث بيتا المشهورة في العام 1988م أبت البلدة إلّا أن تكون رمزاً للنضال والعطاء والصمود؛ فقد جاء حادث الصدام الشهير مع قطعان المستوطنين الذين حاولوا اقتحام القرية وقتئذٍ، فأبلى أبناء القرية بلاءً حسناً، وكان ردّ الجيش الإسرائيلي ومستوطنوه عنيفاً على تلك الواقعة المشهودة التي أدت إلى استشهاد ثلاثة من خيرة أبنائها، ناهيك عن هدم عدد من المنازل، وإصابة العشرات، واعتقال المئات، وإبعاد ستّة من مناضليها خارج وطنهم، كما استُشهِد آخر في نهاية تلك السنة خلال اقتحام الجيش للقرية، وفي سنة 1990م استُشهِد أحد أبنائها في مواجهات مع الجيش الإسرائيلي على أراضي القرية، فيما استُشهِد آخر في نفس السنة غدراً على أيدي المستوطنين بالقرب من مستوطنة إلون موريه وقرية عزموط، ولحقه في السنة نفسها آخر في أثناء قيامه بعملية تسلل من الحدود الأردنية فاستُشهِد على ثرى بيسان المحتلة، كما استُشهِد آخر سنة 1992م، وآخر سنة 1993م، وفي نهاية الانتفاضة الثانية استُشهِد اثنان في سنة 2004م، وآخر في سنة 2005م، وآخر في سنة 2006، وآخر في سنة 2012م اثناء مطارة المستوطنين له اثناء حراثته الأرض لمنع المستعمرين من اغتصابها والاستيلاء عليها، فيما استُشهِد آخر في سنة 2014م، وآخر في سنة 2016م، وآخر في سنة 2017م في خضم أحداث التضامن مع إضراب الأسرى، إضافة إلى استشهاد اثنين في أحداث جبل العرمة في العام 2020، وتسعة في أحداث جبل صبيح في سنتَي 2021 و2022م، وأربعة سنة 2023م؛ واحد منهم في أحداث بلدة حوارة بعد مقتل أحد المستوطنين فيها، وثلاثة في أحداث معركة طوفان الأقصى، أحدهما على مدخل البلدة، وآخر على جبل العرمة، وثالث في حواريها وحاراتها، كما ارتقى احدهما سنة 2024 اثناء المواجهات المحتدمة التي حصلت داخل البلدة في خضم احداث معركة طوفان الأقصى ايضاً.
وفي إحصائية سريعة لشهداء بيتا الأبرار، فقد تبيّن أنّه قد ارتقت ثلاث شهيدات، وثلاث وستون شهيداً، كان منهم ثمانية عشر طفلاً، فيما بلغ عدد المتزوجين ثلاثٌ وثلاثون شهيداً، ومثلهم من غير المتزوجين، أمّا الذين استُشهِدوا على ثرى بيتا فقد بلغ ثمان وعشرين شهيداً، فيما استُشهِد خارج الوطن ثمانٍ وثلاثون، كما تبيّن أنَّ هناك ستة عشر شهيداً من مجمل شهداء بيتا الذين لم يظهر لهم أي أثر؛ فتم عدادهم ضمن قوافل المفقودين يُعتقد أنَّ بعضهم تم مُواراته الثرى ضمن ما يُعرف بمقابر الأرقام، والبعض الآخر تناثرت أشلاؤه أو تم اخفاؤه جثمانه قسراً ولم يتم العثور على أي خبر عنه حتى اللحظة. وبمزيد من التفصيل عن حياة هؤلاء النخبة الأخيار، فقد تباينت وظائفهم بين ثائر، ومطارد، وفدائيّ، وطيّار، ووكيل نيابة، وجندي، وشرطي، وصيدلي، ومدرّس، وموظّف حكومي، وسائق سيارة إسعاف، وسائق قطار، وتاجر، وخيّاط، ودهّان، ونجّار، ومزارع، وفنّي مياه، وطالب جامعي، وطالب مدرسة، وعامل، وربّة منزل.
أمّا فيما يتعلق بالجرحى والأسرى، فيصعُب تَعدادهم؛ لكثرة المناضلين والمُضحّين منهم؛ حيث إنَّ المئات من أبناء البلدة تعرّضوا للإصابة بنيران قوات الاحتلال الإسرائيلي، إضافة إلى اعتقال كثير منهم لمدد زمنية متفاوتة؛ منهم من يقضي حتى اللّحظة أحكاماً بالمؤبدات، وعشرات السنين.
البوابة 24