آمال وزيتونة بين ماضيين

صورة أرشيفية
صورة أرشيفية

خلود أبو ظاهر

عالقة بين ماضيين ، ماض قريب خلده السابع من أكتوبر وماض بعيد منذ عام الثامن والأربعين تسمع عنه من الأمهات والأجداد ، الحاجة آمال (59عام) نازحة من مدينة غزة ،  تروى لنا عن موسم قريب مر عليه عام من النكبة التي نعيشها ، فهي بمثابة صورة توثيقية ومعمقة وبحجم مضاعف لنكبة 48 ؛ ليكون حديثنا معها اليوم حول عام مر على موسم قطاف الزيتون الذي هو باعتباره عيد للغزيين ، فهو انعكاس للهوية والانتماء والارتباط بالأرض .

تدخلنا اليوم الحاجة آمال بالصورة الجمالية لقطاف الزيتون فعند زيارتنا لها في أحد المنازل التي تنزح بها في مدينة دير البلح بدأت متحمسة تروي لنا عن موسم قطاف الزيتون منذ البداية  ، تبدأ حديثها متنهدة ، وتقول: " كنا نتجهز كأنه صبيحة يوم عيد ، نستيقظ في ساعات الصباح الباكر نرتدي عادة الملابس الفضفاضة الداكنة ومنا من يرتدي الثوب الفلسطيني  متجهين لأرضنا على الحدود الشرقية  في مدينة غزة  البعض منا يعتلي حصاناً او حماراً او سيارة  أجرة والبعض يذهب مشياُ على الأقدام "

عادة ما يكون يوم القطاف يوم الجمعة يوم الإجازة الأسبوعية  الرسمية ، هنا تجتمع الجدة والأعمام والعمات والأحفاد متحمسين لهذا اليوم ؛ وعلى الرغم من أن الحاجة آمال تمارس هذا الطقس منذ عشرات السنوات إلا أنها أصرت أن تعود بذاكرتها لعام واحد فقط وتحديداً ليوم السادس من أكتوبر ٢٠٢٣وكأنها لم تجن زيتوناً في حياتها قط غير السادس من أكتوبر . وتقول : " يا الله ! ... يا الله ! ما أجمل هذا اليوم لقد كان يوم الجمعة وكأننا خارجين في رحلة ترفيهية عائلية ، نودع فيها مدينة غزة وموسم قطف الزيتون "

اجتمع ما يقارب ثلاثون فرداً من العائلة ما بين نساء ورجال وأطفال كلا منهم يؤدي مهامه موزعين لفرق  ما بين قطف الزيتون و إعداد الطعام ، لتكمل سردها بغصة وعيون دامعة ، وتقول :" كنا مقسمين لمجموعات فريق   يقطف الزيتون يدوياً  ، وفريق يعتلي السلالم مستعينين  بالعصي للقطاف ، لتسقط حباب الزيتون على الأرض التي عادة ما نفرشها بالبلاستيك وأغطية قديمة "

تسكت برهة وتكمل سردها وتقول : " أما فيما يتعلق بفريق إعداد  الطعام كانوا يعدوا لنا إبريق الشاي الكبير على النار واحضار لنا منقوشة الزعتر المعدة في المنزل وأحياناً يعدوا لنا قلاية البندورة ، أما وجبة الغداء يومها كانت أجنجة مشوية على الفحم "

لقد كان يوم صاخباً إلا أنه جميلاً ما بين ضحكات الصغار ومشاداتهم وعبثهم بحبات الزيتون وما بين تهليلات الكبار وأناشيدهم ، تكمل سردها وتقول :" كنا ننشد الأغاني التراثية ونهلل بالذكر والصلاة على النبي وإطلاق النكات كبارا ًوصغارا سعيدين ، وكأننا نودع بعضنا البعض ونودع الأرض مشتتين ما بين إيواء  دير البلح ومواصي مدينة خانيونس ومنا من بقى في غزة ومنا من ارتقى شهيداً وكانت هذه المرة الأخيرة التي نجتمع بها معا"

تنهمر دموعها التي لطالما حاولت كبحها منذ البداية مصاحب دموعها صوت نحيب  ، متسائلة " متى سنعود لمدينة غزة؟ ومتى سنعود للزيتون؟  لقد اشتقت لرائحة الأرض والشجرات  … 
كنا نلم الزيتون ونقوم بتجميعه على الأرض في الغرفة الملحقة بالأرض ، وفي نهاية اليوم بعد العمل الممتع الشاق قام ابني الأكبر بتوزيع الزيتون حصص على المشاركين بعد ما انتهينا من اليوم؛  لنقرر في اليوم التالي السابع من أكتوبر بجمع آخر شجرتين حتى جاء عدوان السابع من أكتوبر "

آتى السابع من أكتوبر وبات كل شيئ مختلفاً بعد ذلك لتنهى الحاجة آمال حديثها ضاربة كفيها  سوياً قائلة :" ضاعت ديارنا ولم يبق زيتون ولا ليمون ، وبقت الذكرى حسرة في قلوبنا  "
وكم من الغزيين حرموا من ممارسة طقوسهم في قطف الزيتون وعصره فالاحتلال دمر العديد من المساحات الزراعية ومعاصر زيت الزيتون وحدد نطاق حرية الحركة والتنقل ليتفاقم حجم الخسائر يوما تلو الآخر.

مر عام بفصوله الأربعة ومواسمه مؤثراً  على جميع مناح حياتنا ، لتكون حياتنا بحالة شبه ثبات المتغير فيها عدد الشهداء وحجم الدمار ،  فعودة حياتنا لطبيعتها مرهونة بانتهاء العدوان ونحن قيد الانتظار .

البوابة 24